واشنطن تمارس الخداع المزدوج ضد طهران وموسكو!!
صلاح النشواتي
لاتزال الإدارة الأمريكية تعيش أحلك لحظاتها في صراع مستمر وشرس لتحقيق استراتيجيتها على المستوى الدولي، ساعية إلى تدمير أي قوة منافسة أو حضارة ناهضة ممكن أن تهدد التفوق أو التفرد الأمريكي على العالم، مستخدمة كل أنواع القوة وأشكالها في خدمة هذا الغرض، بحيث باتت تعرّف واشنطن مصالحها القومية بما يشمل أكثر من 90% من دول العالم بفضاءاتها الحقيقية والافتراضية -كمساحات للنشاط الجيوبولتيكي الأمريكي- والموزعة على شكل كتل أقليمية يتم ربطها بمعادلات للأمن الأقليمي ضمن الصيغة الأمريكية المفروضة، وذلك لضمان النفوذ والسيطرة على كل كتلة على حدى، ومع ظهور القوى الكبرى المنافسة للقوة الأمريكية، بدأت التكتلات الأقليمية بالتفكك بفعل تداخل مناطق النفوذ، ومحاولة الخصم فرض معادلته في الأقاليم التي يعتبرها مساحات نشاطه الجيبولتيكي الحقيقية، أي أنها مواجهة واسعة النطاق بين القوى الكبرى رابحها من يستطيع ربط أكبر عدد ممكن من الكتل الأقليمية بمصالحه القومية تحت منظار أمن قومي مشترك وواضح بمعادلات محكمة، وقد شكل الشرق الأوسط أحد أعقد هذه الأقاليم وأكثرها ألتهاباً وتداخلاً، فبالنظر إلى أهمية موقعه ومزاياه الجيوسياسية من ناحية الإشراف على أهم طرق الملاحة البحرية، أو من ناحية الثروات الطبيعية والتنوع البيئي، يدرك أن من يفرض معادلته الأمنية يربح المنطقة لصالحه، ويرتكز بها للوصول إلى مناطق أخرى، في مسعى للتوسع بأشكاله المعاصرة المختلفة.
هذه القواعد هي التي تضبط آليات الصراع الراهن في الشرق الأوسط، وتتحكم في اتجاهه بين قواه الأقليمية و تأثير القوى الكبرى، ومما لا شك فيه أن الجهود الروسية في تجنب أي مواجهات أو استنزاف هنا أو هناك بلغت أوجها شهر نيسان الماضي، حيث توجه لافرنتييف لعرض صفقة مع الرياض حول مستقبل سورية في محورها العربي التي يجب أن تعود إليه بصفتها دولة عربية، أو تحمّل مواجهة سورية غريبة مقسمة بين إيران وتركيا، موجهاً من خلال هذه المبادرة دعوة لواشنطن للتفاهم من جديد بعد أن استعصى الوضع في سورية كمفتاح لأمن الشرق الأوسط وترتيب اصطفافاته، والذي مالبث أن اشترط الرئيس الأسد على لافرنتييف بدء عملية تحرير إدلب كإعلان لصدق النوايا السعودية، ومن ثم يتم فتح ملف التمويل الخليجي للأكراد، في حال أردات السعودية حقاً عودة سورية إلى الخط العروبي.
المبادرة الروسية التي حملها المبعوث الخاص للرئيس الروسي لاقت استحساناً أمريكياً، ففي نهاية المطاف تسعى واشنطن إلى تطويق إيران في المنطقة وفرض الصيغة الأمريكية الأمنية، وجعل روسيا جزء من هذه الصيغة أو المعادلة في الشرق الأوسط، وبما أن المبادرة تضمن تحييد سورية عن أي مواجهة مع إيران ضد القوات الامريكية أو ضد حليفتها إسرائيل، فلا مشكلة في إطلاق عملية إدلب بتفاهم روسي أمريكي، شرط أن تنحصر حدود هذه العملية على تأمين محيط القاعدة الروسية في سورية والتي تتعرض للقصف بشكل مستمر من فصائل تديرها الاستخبارات الأمريكية، مقابل نأي البيت الأبيض بنفسه مع مسرحياته الكيميائية جانباً.
في هذه الأثناء كانت الإدارة الأمريكية تحضر خدعة جديدة في الخليج بعد ضمان انشغال روسيا والجيش السوري بمعارك طاحنة في إدلب، حيث عملت على رفع التوتر والتصعيد بشكل كبير في المياه الخليجية، وزادت قواتها في المنطقة تحت ذريعة أخطار إيرانية محدقة على المصالح الأمريكية وحلفائها، ليظن الجميع أن هناك معركة قادمة لامحالة، أو على الأقل مواجهة محدودة هنا أو هناك، إضافة إلى العمليات الاستخباراتية في استهداف السفارة الأمريكية في بغداد وقبلها استهداف سفن تجارية في ميناء الفجيرة الإماراتي و استهداف أنابيب نفط سعودية بغض النظر أيها الملفق لإيران وإيها حقا قامت به القوات الحليفة لها، ما خلق جرعة كبيرة من الخوف والوقوف الحرفي على الهاوية، وفي حين تعمل واشنطن على طرح التفاوض مع الإيرانيين، إلا أن هذا الطرح ليس إلا ورقة إنتخابية لترامب في حال انزلاق الأمور نحو مواجهة عسكرية، أما الهدف الأساس من كل هذا التصعيد هو البدء بإطلاق المعادلة الأمريكية للأمن الأقليمي، ليس التفاوض ولا حتى الحرب، وذلك من خلال البدء بتنفيذ إجراءات صفقة القرن دون الإعلان عن طبيعة هذه الإجراءات أو ارتباطها بالصفقة من جهة، وإعلان قمة عسكرية تعيد صياغة القوى العربية في تحالف قومي جديد يشكل الضامن العسكري والأمني للمعادلة الأمريكية في الشرق الأوسط من جهة أخرى، بما يعيق (بالشراكة مع الحصار والعقوبات) تمدد النفوذ الإيراني في المنطقة في حال الانسحاب الأمريكي نحو الصين.
ولضمان نجاح التطبيق العملي للمعادلة الأمنية الأمريكية كان لابد من الحرص على تدمير الصيغة الثلاثية لاستانا (إيران-تركيا-روسيا) بشكل كامل، كونها تشكل نواة حقيقية للمعادلة الأمنية الروسية، فقامت واشنطن سابقاً بتصنيف الحرس الثوري الإيراني كمنظمة إرهابية لقطع علاقاته مع الإخوان المسلمين، ولتطويق جهوده في العراق، وبدأت بزرع بذور الشقاق بين طهران وموسكو بعد ذلك من خلال التفاهمات لاحقة، وقد ظهر مفعول ذلك جلياً بعد تصريح الرئيس بوتين حول الاتفاق النووي الإيراني وتحميل إيران المسؤولية في حال الانسحاب منه، إضافة إلى الإعلان غير المباشر بتخلي موسكو عن طهران في هذه الحالة، حيث عبر عن ذلك الرئيس الروسي بقوله: “روسيا ليست فريق إطفاء حرائق”.
وفي الطرف المقابل عملت واشنطن على إعادة تسليم غرفة قيادة العمليات في إدلب لتركيا، بعد أن كانت تخضع للاستخبارات الأمريكية في مقابل اتفاق سابق فاشل يتعلق بدخول تركيا إلى الشرق السوري بعد استبدال النفوذ الأمريكي-التركي بين إدلب وشرق الفرات، لتكون بالمحصلة قد أخلت مسؤوليتها أمام التفاهمات مع موسكو، وجعلت من تركيا رأس حربة تهدد مسار العمليات العسكرية في إدلب وتهدد أيضاً أمن القاعدة الروسية في حميميم، خاصة بعد مبادرة لافرنتييف بين الرياض ودمشق على حساب أنقرة وطهران، لتتحول بعدها إدلب إلى عملية استنزاف لكل الأطراف بلا استثناء في مسعى أمريكي لإضعاف الجميع، وساحة إشغال كبيرة تمارس من خلالها الإدارة الأمريكية كل أنواع الابتزاز السياسي والدبلوماسي بغية فكفكة أي تعاون أوروبي روسي جديد في الشرق الأوسط، متذرعة باستخدام الأسلحة الكيميائية في إدلب ورمي الإتهامات المفبركة هنا وهناك، ما يتيح للإدارة الأمريكية نكز الجرح الأوروبي المرتبط بقضية اغتيال العميل السوفييتي السابق سكريبال في سالزبوري البريطانية باستخدام سلاح كيميائي، والتحريض ضد روسيا وسورية في الداخل الأوروبي.
مجمل هذه الأحداث والوقائع والتي تبدو عشوائية هي تفاصيل بمجموعها تشكل الصورة الكاملة التي تسعى إليها الإدارة الأمريكية، وتتلخص هذه الصورة بفرط الوحدات المكونة للأقليم في الشرق الأوسط وإعادة ترتيبها على قاعدة معادلة الأمن الأقليمي الأمريكية، مع الحرص على تحويل روسيا إلى جزء من هذه المعادلة لتقويض نفوذها وتسييره بالضرورة لخدمة أهداف ذات المعادلة، والمفاتيح الأخيرة التي تسمح بإطلاق المعادلة هي الحدود العراقية-السورية، حيث سيتركز كل الضغط الأمريكي القادم عليها، بهدف إضعاف النفوذ الإيراني في الداخل العراقي وتحويل العراق إلى بيئة وعرة لطهران، بعد استهداف العلاقة بين كل من إيران وتركيا.
هذه التكتيكات الجديدة نوعاً ما بالنسبة للإدارة الأمريكية الحالية تعد مؤشراً مهماً على فهم ترامب حدود الأسلحة الاقتصادية كالعقوبات والفصل الاقتصادي للدول من الشبكات الدولية، حيث كان يعتقد في السابق أنها أسلحة كافية لربح أي مواجهة وتدمير أي خصم، ليتضح له فيما بعد أنها لازمة ولكن غير كافية بعد أن أهمل السياسة والخدع السياسية في العلاقات الدولية لصالح الوقاحة والتصريحات الشعبوية، وتعتبر الخلافات الداخلية في البيت الأبيض من جهة، وبين البنتاغون والخارجية من جهة أخرى، أحد المظاهر الخادعة التي تستخدمها الإدارة الأمريكية لتشويش الصورة الكلية التي تعمل على تركيبها، وأيضاً لخداع الخصوم حول أجنداتها والتي كان ترامب قد كشف أغلبها كنوع من التحدي الشعبوي أمام دول العالم في القدرة على تحقيقها وهي مكشوفة بالمطلق.
بالمحصلة نحن أمام مزيد من التصعيد والتلاعب السياسي، وبما لا شك فيه نحن أمام حقبة جديدة من الخداع والتكتيكات السياسية، والتي ستسارع كل الأطراف اعتمادها قريباً ضد بعضها البعض كنتيجة حتمية لانتشار حالة عدم اليقين، إلى حين فرض إحدى القوى الكبرى لمعادلتها للأمن الأقليمي بشكل مطلق، وهذا لايعني زوال لقوى أو دمار قوى أخرى، وإنما يعني ضبط إيقاع المنطقة بما يخدم مصالح وأجندات الطرف المستفيد على حساب ردود أفعال الأطراف الموجودة.