من بطرسبورغ إلى يكاترينبرغ استراتيجية روسية لملء الفراغ الأمريكي
لاتزال الولايات المتحدة الأمريكية تسعى بكلّ إمكانيّاتها نحو استغلال كامل نفوذها على المستوى الدّولي لتحافظ على وجودها كقوةٍ عظمى، وتُنهي مساعي أيّ دولة أخرى نحو بلوغ القطبيّةِ أو حتى الدّور الفاعل على المستوى الإقليمي بعيداً عن محدِّدَات السياسة الخارجية التي تُفرضُ على دول العالم لتوافق معايير المصلَحة الأمريكية والأمن القومي الأمريكي، وقد تحوّل استغلالُ النفوذِ هذا إلى أكثر من مجرّد مرحلةٍ عابرةٍ أو سياسةٍ وقائيّةٍ ليصبح فعليّاً استراتيجيةً دوليةً كاملةً تصوغ وتوجه الأمن القوميَّ الأمريكي، كمؤشّرٍ واضحٍ على جدّيّة التغييرات في النّسقيّةِ الدّوليّة الحاصلةِ وحتى في البنية التّحتيّة -الاقتصاديّة- في النّظام الدُّوليِّ، حيث تعتمد الولايات المتحدة الأمريكية على عاملين رئيسين في الحفاظِ على ذاتها كقوّةٍ عظمى:
العامل الأول: يتمثّلُ في التّفوق العسكريِّ على سائر دول العالم وإنتاج السّلاح ومنظوماتِهِ، وتعميم النّمط العسكريّ الأمريكي على الدول التي تشكّلُ وزناً إقليّمياً.
العامل الثاني: هو القوة الاقتصادية، والسّيطرة غير المباشرة لواشنطن على طبيعة المعاملات الماليّةِ الدولية وكذلك الدّولار الأمريكي.
لتكون السياسة الخارجية الأمريكية ومبادئها هي الموازن بين العاملين السّابقين والموجّهَ لكِلَيهما، بعلاقة أشبه ماتكون كعلاقة زوايا المثلثِ متساوي الساقين، يفصل بين السياسة والمبادئ السياسية مسافةٌ واحدةٌ من جهةٍ، مع كلٍّ من التفوّقِ العسكريّ، والقوّةِ الاقتصاديّة، طالما أن العاملين على ذات المستوى، إلّا أنّ هذا المثلث اختلَّ بشكلٍ كبيرٍ في السنوات الأخيرة لغير صالحِ واشنطن، حيثُ تلقَّت الإدارة الأمريكيّة الصّفعة الأولى من روسيا التي أنهت فعلياً عصر التّفوّق العسكريِّ وأصبح يهدِّدُ حتى تعميم الأنماط العسكريّة الأمريكيّة، والتي حاولت واشنطن التّصدِّيَ لهذا الخللِ الجديد لصالح روسيا بمحاولة استهداف مبيعات السّلاحِ الروسية بعقوباتٍ اقتصاديّةٍ وترهيبٍ دوليٍّ ضد الدول التي تحاول شراء الأسلحة الروسيّةِ المتفوّقة، ولكن دونَ أن تُحدِثَ هذه الحروب الماليَّةُ والدبلوماسيَّةُ التي شنّتْها على روسيا التغيير المطلوب، كحالة تركيا والهند على سبيل المثال، وإنّما انحصرً أثرُها على الدّولِ التي لا تغيّر من موازين القوى على المستوى الدوليِّ، ليدرِكَ بعدَها البيتُ الأبيضُ أنَّ الصّفعةَ الثانية كانت اقتصاديةً من الصين، والتي فشلَت واشنطن بكلّ وسائل الاحتواء التي اتبعَتْها؛ الاقتصاديّة منها والجيوبولتيكية، كتوتيرِ المحيط الإقليميِّ من قضية تايوان، إلى الحقوق المْلكيّة الفكريّة، وصولاً إلى ملفِّ كوريا الشّماليّة، وجزر سبراتلي، والشروعِ باستراتيجيةِ تسليحِ الدّولِ المطلّةِ على بحر الصين الجنوبيِّ لخلق صِدَامٍ بشأن قضيّةِ الجزر المُتَنَازَعِ عليها. ولكنَّ النّتائجِ لم تكنْ حاسمةً ولا ترقى إلى مستوى إنهاءِ تهديدِ الصِّينِ الاقتصاديِّ، ما دفعَ بواشنطن إلى أبعدَ منْ ذلكَ، حيثُ ذهب البيتُ الأبيض نحوَ استغلال وجود العملة الأمريكية كعملةٍ دوليَّةٍ، وعولمة الاقتصادِ الأمريكيّ الذي يتشابكُ مع أغلب الاقتصاديات المتقدِّمةِ في دول العالم، ليفرضَ العقوبات الجائرة وغير المبرَّرة على كلِّ مَنْ يراهُ منافِساً له في تزعُّم ِالاقتصادِ المعولَم أو على مَنْ يراه تهديداً له في نفوذِهِ الجيوبولتيكي في مناطق العالم البريَّةِ والبحريَّة، وتزامنَتْ هذه العقوباتُ مع قراراتٍ سياسيَّةٍ تهدُفُ إلى محاولة النهوض بالرافعة الاقتصاديَّةِ الأمريكيّة كاستراتيجيةٍ مزدوجةٍ تقوم على تقويض الخصم في الخارج وإعادةِ بناء الذات في الداخل. ومن هذه القرارات فرضُ رسومٍ جمركيَّةٍ على الصُّلب والألمنيوم على كلّ دول العالم دونَ استثناءٍ حليفاً كان أم عدواً، والانسحاب الأمريكي السابق من الاتفاق الدّوليِّ مع إيران لمجموعة العمل المشتركة (الاتفاق النّوويّ) المكرَّسِ بقرارٍ من مجلس الأمن، ما عرّضَ الاتحاد الأوروبيَّ الحليفَ الرئيس للولايات المتّحدة الأمريكيّةِ لهزةٍ وصدمةٍ شديدتين من هذه القراراتِ التي تُعدّ بروكسل المتضرِّرَ الأولَ منها، ودوله على رأس قائمة الاقتصاديّاتِ الكبرى في العالم. هذه الأنانية الأمريكية ورفع عتبةِ المصلحة القوميّة فوق مصالحِ الجميع بشكل فعليِّ خلقت صدعاً عميقاً في النّظامِ الدوليّ، وأصبح الدور الأمريكي دوراً غيرَ موثوقٍ حتى أنهُ مثيرٌ للقلق، وهو ما أتاحَ الفرصة الحذرة لروسيا بملءِ هذا الصدع ومحاولة الشّروع باستبدالِ الدور، حيثُ بدأت رؤيةُ موسكو لذاتها تتحولُ من اقتصادٍ قويٍ في نظامٍ اقتصاديٍّ معولَم إلى اقتصادٍ إمبراطوريٍّ في شبكةٍ جيوقتصادية تُخرجُ الولايات المتّحدةِ الأمريكيّة منها شيئاً فشيئاً، لتصبح خارجَ هذه الدائرة والتي تعمل موسكو على دمجِها مع الصين، ولكنّ الأمرَ ليس بهذه السهولة، والنيةُ وحدَها لا تكفي لإحداثِ تغييرٍ بهذا الحجم، حيث على روسيا أولاً أنْ تُوجِدَ البدائلَ الاقتصاديّةَ والأمنيةَ للقّارّتينِ؛ الأوروبية والآسيوية، إضافةً إلى خلقِ نموذجٍ دبلوماسيٍّ جديدٍ لفض أيِّ تصادمٍ أو تعارُضٍ للمصالح يمكنُ أنْ ينشاً مستقبلاً مع الدول في الدائرة الواحدة، كالتّعارضِ المحتمل بين كلٍّ من روسيا والصين على زعامة الكتلة الجيوقتصادية الناشئة بشكلِها الإمبراطوري، إضافةً إلى تطوير الإنتاج والتكنولوجيا الروسية حتى تخرج فعلياً من خانة الدولة المصدِّرةِ للمواد الأولية، وتصبح ضمن الدول ذاتِ الاقتصادِ المتطور والاعتماد التكنولوجي الذي يسمح فعلياً ببناء اعتماديات إقليمية بينها وبين الفضاءات الاقتصادية المجاورة جيوقتصادياً لها.
بالرغم من هذه العقبات إلّا أنّ مؤتمر بطرسبرغ الدولي بنسخته الـ(22) حمل معه الكثير من محاولة التذليل لعوائقَ هامةٍ في ثلاث نقاطٍ رئيسةٍ:
- طرح موضوع التّبادلِ بالعملاتِ المحليَّةِ بين الرئيس بوتين ورئيس الوزراء الياباني شينزو آبي، وهي خطّةٌ من الممكن في حالِ استمرار موسكو بالتوسع بها أن تخلقَ بديلاً ارتكازيّاً عن الدولار الأمريكي وليس موازياً له في الفترة الراهنة.
- طرح الرئيس بوتين لموضوع الضمانة الأمنية الروسيّة لأوروبا خلال حديثه مع الرئيس الفرنسي ايمانويل ماكرون، وهي خطوة روسية جريئة قد تجعل من التعاون الطاقوي ومشاريع مدِّ الأنابيب أمراً أكثر سلاسةً، وتدفع الناتو إلى إعادة تدفئة العلاقات مع موسكو وتفعيل مجلس حوارٍ روسيا-الناتو في المدى المنظور.
- الإعلان عن قمّةٍ عالميّةٍ للصناعة والتصنيع في يكاترينبرغ العام القادم.
بالتالي تشكِّلُ قمّةُ الصناعة والتصنيع في يكاترينبرغ بديلاً واضحاً عن مجموعة (G7) بعد طردِ روسيا منها، بالإضافة إلى العمل على هذه القمّة العالمية كسلسلة مستمرةٍ لتصبح موازيةً لمجموعة العشرين الدولية، ما يعني أنَّ موسكو تعملُ فعليّاً على موضوع ترويكا اقتصادية متكاملة؛ الاقتصاد التقليدي والصناعي والتكنولوجي، وتأطيرها في نموذج روسي دوليٍّ جديد، يمكن أن يحلَّ محلَّ الانسحابات الأمريكية، والضرائب المتتالية التي خلخلت البنى الإقليمية والجيوقتصادية في كامل المجتمع الدولي، بالتالي تسلك موسكو سلوك المؤتمرات الثلاث كبدائل عن ثلاث:
– مؤتمر بطرسبورغ بديلاً عادلاً عن اتفاقية التّجارة عبر الأطلسي.
– ومؤتمر يكاترينبورغ بديلاً عن مجموعة الثماني التي أُخرِجَتْ منها روسيا.
– مؤتمر الشرق الأقصى الاقتصادي الدولي في فلاديفوستوك بديلاً عن اتفاقيّة الشَّراكةِ عبر الهادي التي انسحبَتْ واشنطن منها مؤخَّراً.
وفي ذلك إشارةٌ واضحةٌ إلى التّحوّلِ الجذريِّ في المساعي الروسيّة من اقتصاد معولَمٍ رائدٍ على مستوى العالم إلى الاقتصادِ الإمبراطوريِّ، ومزاوجتِهِ مع التّفوق العسكريِّ المُعلَنِ في الفترة الأخيرة.
وبالرّغمِ من إمكانية موسكو لرأبِ الصّدعِ جزئيّاً إلّا أنَّ صدعَينِ آخرَينِ على وشكِ الظّهور؛ صدع مع الصين التي تسعى لتزعُّمِ البنية الاقتصادية الدولية بتحوُّلِها إلى المعمل الضخم للنِّظامِ الاقتصاديّ العولمي والتي تمتلك رؤيةً واسعةً ومشاريعَ عابرةً للقارات لتحقيق الزعامةِ على الاقتصاد العولمي، بالتالي إشكالية جديدة بين نمطين اقتصادِيّينِ؛ الاقتصاد الإمبراطوري والاقتصاد العولمي، ما يعيق الجهود الروسية الصينية التكاملية ويحولها إلى ما يشبه الاندماجية، والذي يبدو كأمرٍ بعيدٍ جداً عن الواقع، هذا من جهة، من جهة أخرى تجارة النفط والغاز بوصفها تجارة عالمية مقومة بما يقابلها من الدولار الأمريكي بالقيمة، حتى ولو كانت تتمُ بعملات غيرِ الدولار، أي الحاجة الملحة لخلق بديلٍ عن معادلة البترودولار، والتي ستخلق صدعاً كبيراً مع الخليج العربي، بحيث يتهدّدُ وجوده بين نموذج أمني يقتضي حماية الأنظمة السياسيّة في الخليج من قبل واشنطن، وبين نموذج اقتصادي يقوم على معادلة جديدة قد يجعل نفط الخليج شبه فاقدِ القيمةِ في حال عجزَ حينها عن مواكبةِ المتغيّرات الدولية.
صدعين بحاجةٍ إلى استراتيجيَّةٍ روسيةٍ واضحةٍ ومُعَدَّةٍ بالإضافة للاستراتيجيات التي تفرِضُها تغير الظروف الدوليّة والسياسة الأمريكية الرعناء، والتي من الممكنِ في حال وضع حلولٍ استراتيجيةٍ استباقيّةٍ أن يدخلَ النظامُ الدوليُّ مرحلة التعدّدية القطبية المستقرة والآمنة.