ورقة عمل بحثية حول العلاقات الصينية السورية وآفاقها.
أنجزت هذه الورقة وأرسلت في تاريخ 15/11/2018 ونشرت في 21/05/2019
صلاح النشواتي
كيف تنظر الحكومة السورية لدور الصين ، وسياسة الصين في سوريا ؟
دائماً ما كانت تشكل الصين بتجربتها ومزاوجتها بين الأنظمة (الشيوعية-الرأسمالية) نموذجاً تسعى إليه الحكومة السورية بقوة، فالصين بالنسبة للحكومة السورية هي تجربة سياسية رائدة على المستويين الداخلي والخارجي، وتنظر إلى الدور الصيني بشكل عام على أنه دور فعال لكنه محدود بذات الوقت، حيث أن الصين تبتعد عادة عن الأزمات الجيوسياسية وعن الصراعات المعقدة كحال الأزمة السورية، كما تعلم الحكومة السورية أن مبدأ الصين الرئيس في السياسة الخارجية هو الاقتصاد قبل كل شيء، حيث أن الاقتصاد هو مولد السياسات في الصين الداخلية منها والخارجية، وتتدخل السياسة فقط لتزيل العقبات الاقتصادية -بغض النظر عن نوعها- سواءً على المستوى الأقليمي أم على المستوى الدولي، لذلك فإن رهان الحكومة السورية على الصين وعلى الدور الصيني هو رهان محدود، بحيث أن هذا الدور هو مفائل وضروري للحكومة السورية التي يسعى الغرب لتدميرها وتقويضها، إلا أنه مضبوط بمحركات ودوافع اقتصادية، وتوجه سورية شرقاً قد يحرمها فرصة التطور أو المنافسة أمام الانتاج الهائل والمتنوع في الصين، وهو مايشكل نوعاً ما عقدة يجب حلها بالنسبة للحكومة السورية، وبكل تأكيد فإن الحكومة السورية لاتفكر في أن تكون منافس للاقتصاديات الشرقية ولكن لا ترغب أيضاً في أن تكون سوق تصريف ومجتمع إستهلاكي فقط، لذلك تسعى الحكومة السورية لإيجاد بدائل يمكن تقديمها للصين مقابل زيادة فعالية الدور الصيني في سورية بما يؤمن إعمارها، وعودتها إلى سكة النمو الاقتصادي وتحقيق تنمية مستدامة في البنى الاقتصادية السورية.
كما تعتبر الحكومة السورية التعاون الأمني والاستخباراتي الموجود حالياً بين البلدين هو تعاون مهم وضروري لكلا البلدين، خاصة أن بعض الإرهابيين في سورية وأخطرهم ينحدرون من أقاليم صينية ومن أقليم شينغيانغ على وجه التحديد، والذي تسعى الولايات المتحدة الأمريكية فيما بعد إلى تصدير أزمة جيوسياسية إلى ذلك الأقليم بصفته العصب الحيوي للمشاريع الاقتصادية التجارية الصينية الدولية، وتحاول الحكومة السورية من هذا المنطلق التأسيس لعلاقة أكثر متانة بين الدولتين، بما يخدم مبادئ كل من بكين ودمشق على حد سواء.
ما الذي يمكن أن تفعله الصين في سوريا ؟
ما التوقعات والمقترحات والنصائح التي يمكن تقديمها للصين سواء في مجالات مكافحة الارهاب والتعاون مع سورية أمنيا واقتصاديا ؟
مما لاشك فيه أن الصين تسعى بشكل واضح إلى تعزيز النظام الدولي القائم على الليبرالية والتنمية والتطوير، وتسعى أيضاً إلى مشاركة أنتاجها وتوسيع حصتها في سوق التجارة العالمي، وطريق الحرير الجديد أحد تجليات هذه الرؤية، ولكن واقع الأمر أن الولايات المتحدة الأمريكية تتخوف من سيطرة صينية على التجارة ومن زيادة ثقل الاقتصاد الصيني، بما يحول الصين لقطب دولي منافس أو حتى يفوق الولايات المتحدة الأمريكية، لذلك أطلقت أمريكا في استراتيجيتها الجديدة نمط جديد ونظرة جديدة تجاه الصين، وهي نظرة الخصم، هذه النظرة يقوم عليها الكثير من التداعيات التي تهدف إلى كبح وتيرة النمو الصيني واستغلال نقاط الضعف، وقلب أو عكس اتجاه التوسع الصيني إلى انكماش حاد، ووسائل الضغط في السياسية الأمريكية الجديدة تكمن في أمرين رئيسيين:
الأول: افتعال أزمات جيوسياسي بالمحيط الصيني وقطع أو إعاقة حركة البضائع في المحيط الأقليمي (براً وبحراً)
الثاني: يكمن في شن حرب اقتصادية ضاغطة وكبيرة بفرض رسوم والتعامل على أساس سرقة حقوق الملكية.
هذه الوسائل تفرض على الصين إعادة النظر في سياساتها الخارجية وحتى في أدوات العمل لتطبيق استراتيجية طريق الحرير، فبالرغم من أن الصين لا تتدخل في الأزمات الجيوسياسية، إلا أن الاقتصاد هو مولد هذا التدخل في هذه المرة، فبمجرد استحضار أزمة بحر الصين الجنوبي، وملف بورما، وملف الأويغور، يتضح جلياً أن الهدف هو منع الصين من الاستخدام المستقر لطرق بحرية وبرية للنقل التجاري، وإغراقها بفائضها، وخلق كساد في الاقتصاد الصيني، يمهد لهبوط نسب النمو وتقليل عدد المشاريع التنموية، لكي لا تستطيع الصين زيادة نفوذها في دول جديدة على أقل تقدير.
من هذا المنطلق وعلى ذات الدوافع يمكن صياغة علاقة (صينية-سورية) ثنائية تكون نموذجاً جديداً للصين في إدارة علاقاتها من جهة، وإدارة الصراع مع الولايات المتحدة الأمريكية من جهة أخرى، وحتى تعزيز الشراكات الاستراتيجية كالشراكة مع روسيا.
حيث يجب على الصين من خلال توسعها وامتدادها في القارة الآسيوية وصولاً لباقي قارات العالم القديم مراعاة أمر غاية في الأهمية، ألا وهو المساحة الكبيرة و عدد الدول التي تمر بها، أي أن زيادة طول الأذرع بعيداً جداً عن المركز يسهل على الولايات المتحدة الأمريكية استهدافها أو التهديد بقطعها، من خلال تفجير أزمة هنا أو حرب هناك على امتداد هذا الطريق، ومن هنا من الأفضل أن يكون التوسع الصيني توسعاً لا مركزياً، يعمل بمبدأ مغاير لبمبدأ المركز والأطراف، والتي يمكن أن تكون المركز ومراكز الوصل أو مراكز الثقل، بحيث يكون هذا التوسع والامتداد مصحوب بحضور صيني سياسي قوي في تلك الدول، والسعي لتوجيه مسار التنمية بما يحقق الاستقرار الاقتصادي والاجتماعي في داخل الدول، وتكون مراكز الثقل هي بمثابة صين أخرى، بالتخزين والانتاج والتصدير،
وهو ما يفرض معايير جيوسياسية على مراكز الثقل أهمها أن تتمتع هذه المراكز بالقدرة على الربط بين طريق الحرير البري والطريق البحري كرافد أحتياطي ومعمل سريع التوصيل ورخيص الإنتاج، إضافة إلى توافر مصادر الطاقة الخاصة بها.
هذه المعايير يمكن أن تتوفر في سورية، والتي يمكن للصين أن تعتمد سورية كوصل بين القارات الثلاث ووصل الطريق البري بالبحري، لتكون بذلك سورية واجهة صينية للمتوسط ومركز ثقل لطريقي الحرير، بالتالي يمكن صياغة مجموعة من المصالح المتبادلة التي تصبح في نهاية المطاف مصلحة واحدة مشتركة، عوضاً عن إتاحة المجال لتكون سورية هي أرض انطلاق الأزمات والتهديد للطرق والمشاريع الصينية بمختلف الوسائل.
ومن المهم الإشارة إلى أن تنويع الطرق ومراكز الثقل تلعب دوراً مهماً في استقرار الخطوط الرئيسية حيث لافائدة من محاولة افتعال أزمات فيها طالما أن البدائل على القيد العمل في الأساس، على سبيل المثال أي أزمة ممكن أن تحدث في البحر الأحمر بين مصر والسودان والذي مرده للخلاف التركي الخليجي، يعني فرصة لواشنطن بعرقلة الحركة وزيادة نفوذها في المنطقة.
المصالح الصينية-السورية المشتركة:
أولاً: الموارد الطبيعية:
سورية بلد غني بالموارد الطبيعية، وهو أمر يجب أن تهتم الصين به جيداً، حيث أحد أكبر المشاكل التي ستعاني منها مستقبلاً هي انعدام تجدد الموارد الطبيعية في الصين نتيجة حجم الانتاج الضخم والاستهلاك الكبير للمواد الأولية بسرعة أكبر من تجديد هذه الموارد نفسها، وهو مايحتم البحث المسبق عن حلول لواقع الصين الحالي قبل أن تصبح هذه المشاكل مستحيلة الحل، بالتالي سورية بغناها بالموارد الطبيعية تشكل نموذجاً مهماً للصين من خلال اعتمادها كمركز ثقل كما ذكرنا سابقاً، وهو بحد ذاته مايمكن سورية من استغلال هذه الموارد وحمايتها من الهدر غير الفعال وتطويرها بأحدث الوسائل.
ثانياً: الطاقة:
من أهم الشروط لمراكز الثقل هو وجود مصادر طاقة ذاتية قادرة على إطلاق الصناعات الثقيلة وتغذيتها دون الحاجة إلى مصادر خارجية، كنوع من الأمن الطاقوي للأنتاج والتجارة، وهو شرط موجود في سورية ويمكن العمل عليه بحيث تستطيع التكنلوجيا الصينية تحقيق زيادة في الانتاج بما يخص الطاقة، بالإضافة إلى تنوع مصادر الطاقة من الغاز والنفط والطاقات المتجددة (الشمسية والرياح) بحكم تنوع المناطق الجغرافية في سورية، وهو مايصب بمصلحة الدولتين.
ثالثاً: رخص اليد العاملة:
من أهم ميزات الصناعة الصينية هي انخفاض تكلفة الانتاج والذي يعد انخفاض أجور اليد العاملة أحد أهم أسباب ذلك، بالتالي هو شرط ضروري للحفاظ على القدرة التنافسية للسلع أمام الأسواق الأخرى، وهو شرط يتوفر في اليد العاملة السورية وأجور تشغيلها، مع فارق مهم وهو المسافة القريبة والمتساوية تقريباً بين القارات الثلاث، بالتالي بالنسبة لسورية خفض معدلات البطالة بشكل قياسي مقابل تشغيل خطوط الانتاج بأجور منخفضة.
رابعاً: التحويلات المالية وتطوير الأنظمة المصرفية:
القطاع المصرفي والقطاع المالي في سورية لايزال يعتمد بدرجة كبيرة على الطرق التقليدية في التحويلات والتعاملات، وذلك بسبب العقوبات الأمريكية التي حرمت سورية من الاستفادة من الأنظمة المتطورة في الدفع المالي والتحويلات المالية والذي يؤخر بدوره النمو والتطور، وهو ما تستطيع الصين توفيره بسهولة بمجرد ربط سورية بالبنك الآسيوي وحتى تصدير النماذج الصينية للدفع الألكتروني ذات الاستخدام الداخلي، مايسهل المعاملات البنكية والمالية بين كل من سورية والصين ويجعلها اكثر كفاءة وسرعة، ويعزز أيضاً وضع اليوان الصيني كعملة تبادلية دولية تستند إلى أصول سلعية بعيداً عن الدولار وأنظمته.
خامساً: العامل الأمني وتعزيز الأمن القومي الصيني والسوري:
تسعى الولايات المتحدة الأمريكية لتحويل سورية إلى مركز تصدير للمتطرفين الإسلاميين والذي يشكل الأويغور منهم نسبة ملحوظة، وهذا التصدير تعنى به آسيا الوسطى والصين بدرجة كبيرة كونه موجه ضدها، بالإضافة إلى الضغط على الصين بلمفات حقوق الأنسان من خلال البروبغندات الإعلامية كحال ملف أقليم مسلمين تشينغ يانغ الذي ظهر على السطح مؤخراً، بالتالي من مصلحة الصين رفع درجة التعاون الاستخباراتي والأمني في الفترة الحالية مع سورية، ومحاولة وأد هذه الحركات الأرهابية قبل انطلاقها من جديد بوجهات متختلفة قد تضر بالأمن القومي الصيني وتهدد كل مشاريعها الاستراتيجية، لذلك من الخطأ تجاهل أو استبعاد سورية من المشاريع الكبرى، لما لذلك من خدمة للمصالح الأمريكية في إيجاد بقعة جغرافية قادرة على تهديد الطرق التجارية بموقع جغرافي مميز، ويتم تصدير الإرهاب منها إلى آسيا الوسطى، في حين أن الصين تستطيع الاتفاق مع الحكومة السورية لتفريغ هذه الأداة الأمريكية من محتواها، حيث يمكن السماح للمسلمين الأويغور لدراسة المنهاج الإسلامية بالسفر حصراً إلى سورية، بالاتفاق مع الحكومة السورية، وإخضاع مايتم تدريسهم للرقابة، بحيث تحمي الوافدين من عمليات غسل الأدمغة أو التورط في شبكات إستخباراتية غربية، وبذات الوقت تخفيف الضغط عن ملف الأويغور في الصين والتي تسعى الولايات المتحدة الأمريكية إلى تأجيجه وخلق أزمة جيوسياسية منه، ويكمن التعاون الأمني والاستخباراتي المشترك من خلال تزويد سورية في المرحلة الراهنة بمستلزمات متطورة لمكافحة الإرهاب ودعم هذه العملية في المحافل الدولية، إضافة إلى تعاون ثقافي مشترك ينضوي تحته موضوع الدراسات الإسلامية بين سورية وأقليم شينغ يانغ، بالتالي نزع فتيل التطرف مسبقاً، وتمكين الصين من معرفة كيفية التعامل مع هؤلاء وكشف خلفياتهم الثقافية والدينية دون تعريضهم للضغط المباشر التي ستستثمره الاستخبارات الأمريكية، ومن هنا يمكن تحويل سورية إلى مركز تأهيل وسوق عمل في ذات الوقت بالنسبة لهؤلاء، مايحولهم من أزمة خطيرة تشعر بكين بالقلق الدائم حيالها، إلى عامل مساهم في تطوير المشاريع الصينية الاستراتيجية، في خطوة أفضل بأضعاف من تحييد الخطر فقط.
مما سبق يتضح أن أحد أهم وسائل مواجهة الصين لسياسة الولايات المتحدة الأمريكية الخصم يكمن في إيجاد مراكز ثقل إضافية على طريق الحرير تعمل على تنويع الطرق وحماية التدفق السلس والدائم، بالإضافة إلى تلافي الأزمات الجيوسياسية المفتعلة، وهو ماتشكل سورية أحد أهم النماذج في مراكز الثقل على الكثير من المستويات (الجيوسياسية، الأمنية، الاقتصادية)، بحيث تصبح العلاقات الثنائية علاقة ذات طابع استراتيجي مشترك، وهو مايفتح الباب لتحقيق السلام الأقليمي القائم على الاعتمادية الدولية، كرؤية معززة لرؤية الأمن الجماعي الروسية، وهو مايمكن دراسته ببحث خاص يفصل كيفية تحويل سورية من منطقة صراع مشاريع ودول كبرى إلى منطقة حلول كبرى، بالإضافة إلى دراسة آلية تعامل الصين وسورية في إشكالية الوجود الأمريكي والتي تستطيع الصين بالشراكة مع سورية ورسيا إنهاء الشذوذ في هذا الملف.