الحرس الثوري الإيراني يراقب معركة إدلب من مطار طرابلس الليبي!!
في ظل الصراع بين القوى الثلاث الأساسية في الشرق الأوسط متمثلةً بكل من (إيران-تركيا-السعودية) سعت إيران إلى رسم تحالف جديد يتناسب مع طبيعة نظامها السياسي الإسلامي، حيث تمكنت طهران من إيجاد صيغة شرق أوسطية مرضية تتلخص في تحالف إثنان ضد الثالث، والذي تبلور منذ وصول حركة الإخوان المسلمين إلى الحكم في تركيا، ومن ثم انطلاق ثورات الربيع العربي الإخوانية، والتي نالت مباركة إيرانية قبل أن تدرك طهران أن الثورات بأكملها ليست أكثر من أجندة فرعية لواشنطن في عهد أوباما ضمن استراتيجية كبرى، ما دفع طهران إلى اتخاذ مواقف حازمة وسريعة ضد هذه الثورات وخصوصاً عندما وصل مدها إلى سورية، ولكن سرعان ما تغير الموقف الإيراني من الإخوان في المنطقة بعد أن انقلبت الإدارة الأمريكية على تركيا بثورات مضادة بسبب إحيائها الحلم العثماني مع الحكومات الإخوانية في المنطقة عام 2013 وسعيها لملئ الفراغ الناجم عن الانسحاب الأمريكي المجدول سابقاً في 2011 من العراق وأفغانستان.
هذا الانقلاب الأمريكي سمح لطهران بإعادة تنسيقها وتواصلها مع الحركات الإخوانية في كل المنطقة، باستثناء الملف السوري التي أخذت على عاتقها الإبقاء على التحالف مع البعث السوري والدولة السورية، فتلخص دعمها للجيش السوري بمحاربة داعش والفصائل التابعة للسعودية بالشراكة مع تركيا في إطار استانا الذي نظمه ووضع إطاره الروس في إعلان موسكو 30/12/2016 كحصاد للإنقاذ والدعم الروسي والإيراني المقدم لأردوغان عشية الإنقلاب التركي المدبر أمريكياً من قاعدة أنجرليك التابعة للناتو في 15/07/2016.
وبعد انتهاء معركة ريف دمشق التي انقضت باتفاق ثلاثي (تركي-روسي-إيراني) على سحب الفصائل التابعة لتركيا والإيقاع بالفصائل السعودية، وبعدها معركة الجنوب التي ضغط فيها الكيان الإسرائيلي على السعودية بإنهاء تواجد فصائلها جنوباً خوفاً من فتح معركة تصل إلى الجولان السوري المحتل، لم يتبقى سوى منطقة الشمال السوري ضمن اتفاق استانا، والتي تعد منطقة المصالح التركية، ليطلق الجيش السوري معركة إدلب في الشهر الماضي بالشراكة مع روسيا (ذكرنا تفاصيلها في مقال سابق بعنوان واشنطن تمارس الخداع المزدوج ضد طهران وموسكو).
هذه المعركة أوصلت طهران إلى اللحظة الحرجة، التي ظهر أنه لابد من مواجهتها مهما طال الزمن، فهي أمام أحد خيارين أحلاهما مرّ، فإما أن يشارك الحرس الثوري الإيراني مع قواته الرديفة في معركة إدلب، ويخسر بالمقابل آخر قوة إقليمية حليفة له (تركيا-قطر) في وجه واشنطن، ويخسر أيضاً تحالفه الكامل مع الإخوان المسلمين وبالأخص حركة حماس، أو ينأى بنفسه عن معركة إدلب، ويكتفي بالمراقبة.
فعلياً اختار الحرس الثوري الخيار الثاني، فيما يتعلق بمعركة إدلب رغم كل ضراوتها وشراستها، كونه الخيار الأكثر منطقية بالنسبة لمصالحه، لكن الخيار الثاني حمل معه إجراءات أكبر بكثير من عدم المشاركة في المعركة حفاظاً على العلاقات التركية-الإيرانية، حيث اتضح أن هذا الخيار شمل مشاركة الحرس الثوري الإيراني في تقديم الدعم الكامل لقوات الوفاق الوطني الإخوانية في ليبيا في حربها ضد قائد الجيش الليبي المشير “خليفة حفتر”، حيث رصدت المواقع المسؤولة عن تتبع الحركة الجوية طائرة شحن ليبية بتوقيت 10:45 مساءً من طراز “Ilyushin Il-76TD” خرجت من مطار طرابلس الليبي في رحلة ذهاب وعودة باتجاه سورية، وقامت بإطفاء جهاز التتبع الخاص بها، في حركة مشابهة تماماً لسلوك الحرس الثوري الإيراني مع ناقلات نفطه، حيث يقوم بإطفاء أجهزة التتبع للناقلات بعد عبورها مضيق ملقا في سنغافورا، كأسلوب للالتفاف على العقوبات الأمريكية الجائرة على إيران، ومن ثم يقوم ببيعها في السوق السوداء الصينية، واستلام ثمنها عن طريق شركات نصف وهمية بين آسيا وأوروبا، ما يعني أن طائرة الشحن القادمة من ليبيا في 01/06/2019 كانت تتجه نحو مطار التيفور العسكري السوري الذي يتواجد فيه الحرس الثوري لتلقي الدعم، والذي تعرض في مساء ذات اليوم لعدوان إسرائيلي عنيف.
هذه المعطيات تضعنا أمام سؤالين مفصليين:
الأول: ماذا قدمت إيران لحكومة الوفاق الإخوانية في ليبيا ولماذا؟
الثاني: لماذا قام الكيان الإسرائيلي باستهداف مطار التيفور بعد الرحلة الليبية إليه؟
يتضح من خلال المصادر الإعلامية أن طهران كانت تقدم عناصر الطائرات المسيرة بالإضافة إلى تقنياتها إلى ليبيا انطلاقاً من سورية، حيث أشار مسؤول رفيع في حكومة الوفاق الوطني، في تصريح لصحيفة “ذي إندبندنت” البريطانية، أن القوات الحكومية حصلت في الأيام الأخيرة على طائرات مسيرة، وتمكنت من تحديثها لتبدأ استخدامها عند جبهات القتال مع قوات “الجيش الوطني الليبي” بقيادة المشير خليفة حفتر في محيط العاصمة طرابلس، وبعيداً عن التحالف الوثيق بين إيران والإخوان، تأتي ليبيا في أولويات الدعم بالنسبة للحرس الثوري لهدف استراتيجي أعمق، حيث تحارب حكومة الوفاق قائد الجيش الليبي “خليفة حفتر” المدعوم من السعودية، والتي تسعى الرياض وحلفها في دعم حفتر لبسط كامل نفوذه على ليبيا، للتحكم فيما بعد بإنتاج النفط الليبي، بالتالي استخدامه بالتوافق مع واشنطن لتغطية النقص في المعروض من النفط الإيراني الخاضع للعقوبات، بالنفط الليبي، دون أن تتأثر الأسواق وأسعارها، تحت إشراف مباشر من الرياض والقاهرة، وهو أمر لاترغب به طهران على الإطلاق، بل على العكس، حيث تسعى للضغط على الموقف الأمريكي من خلال الإبقاء على الإنتاج الليبي معطلاً، بالتالي الضغط على أسعار النفط نحو الصعود، والذي لاتستطيع الإدارة الأمريكية تحمله طويلاً، إضافة إلى أن خطورة العقوبات الاقتصادية على القطاع النفطي الإيراني لاتنحصر فقط بخفض المبيعات وتضاؤل الواردات، بل بخسارة طهران لزبائنها وحصتها السوقية بشكل دائم من جهة، ولخروج الكثير من الآبار النفطية القديمة في حال التوقف عن الانتاج وحاجتها إلى مبالغ طائلة لإصلاحها من جهة ثانية.
أما العدوان الإسرائيلي في تلك الليلة على مطار التيفور السوري، يثبت بما لا يدع مجالاً للشك أو التحليل، بأن التنسيق (السعودي-الإماراتي-الأمريكي-الإسرائيلي) هو تنسيق رباعي في إطار غرفة عمليات استخباراتية عسكرية مشتركة، تعمل على مدار الساعة وطيلة أيام الأسبوع.
هذه المواجهة بين السعودية وإيران في ليبيا كساحة جديدة، دفع بمجلس الأمن للانعقاد وتمديد قراره رقم “2420” القاضي بحظر توريد الأسلحة للأطراف الليبية، كما دفع بروسيا إلى التدخل ومحاولة إيقاف المعركة الدامية التي تجري بين الطرفين الليبين، حيث أرسلت موسكو بنائب وزير خارجيتها سيرغي فيرشينين في 10/06/2019 ليلتقي بمساعد وزير الخارجية الإيراني للشؤون السياسية الخاصة علي أصغر حجي، لتتركز المحادثات على العديد من الملفات أهمها ليبيا.
وبالرغم من الحرص الروسي على تخفيض مستوى الزيارة، ربما لإخفاء أهميتها، إلا أن الملفت في الأمر أن نائب وزير الخارجية الروسي ناقش في طهران الملفات المشتركة جملة واحدة، مع العلم أن موسكو تؤيد سيطرة خليفة حفتر على طرابلس، دون أن تدعمه بشكل مباشر، وبمجرد مناقشة الملفات على شكل حزمة واحدة بين الطرفين الروسي والإيراني، يتم قراءتها على أن موسكو تفاوض طهران للتخلي عن دورها في ليبيا ومساعدة الجيش السوري في إدلب، مقابل تعهد موسكو بتنشيط ودعم الحراك الأوروبي لإنقاذ الاتفاق النووي، بالإضافة إلى ضمانات أمنية بعدم تأييد التصعيد الأمريكي ضد ظهران، ووقف الصراع الناعم في سورية بين الطرفين والذي تمثل بتيارات العلمانية تارةً، وطرح موضوع عودة حماس إلى سورية تارةً أخرى، وتوحيد الجهود نحو الاستقرار في المنطقة وتركيب معادلة أمن إقليمية برعاية روسية، تخدم مصالح جميع الأطراف على حساب المعادلة الأمنية التي تحاول واشنطن فرضها، وتبقى التفاهمات الروسية-الإيرانية الجديدة بما تتضمنه من مشاكل الملف الفلسطيني والتصدي لصفقة القرن، رهينة نتائج الزيارة المقبلة للرئيس الروسي فلاديمير بوتين إلى السعودية.