إعادة فتح ملف الخاشقجي ضغط أمريكي جديد باتجاه صفقة القرن!!
لم يشكل ملف الخاشقجي يوماً ملفاً إنسانياً بمقتل صحفي في سفارة بلاده، بل كان منذ اللحظة الأولى التي استقر فيها خاشقجي في الولايات المتحدة الأمريكية مشروع استخباراتي بغطاء صحفي، حيث عانى ترامب كثيراً من الموروث الاستراتيجي لسلفه أوباما، والمتمثل في الخلاف العميق بين دول الخليج من جهة، وتركيا وقطر من جهة ثانية، والناتج عن دعم أوباما لانقلاب الرياض على مشروعه الأول (الربيع العربي) بعد استيلاء أنقرة عليه، ومحاولتها إعادة إحياء الامبراطورية العثمانية بربط الأنظمة الإخوانية، وازدياد نفوذ إيران التي تحالفت مع الإخوان على غير المتوقع أمريكياً.
هذا المشهد كان قد استعصى على ترامب وإدارته، خاصة بعد فشل الانقلاب الأمريكي الذي قاده أوباما على أردوغان، ووصل إلى درجة تغيير المنظور الاستراتيجي لللأزمة الدائرة بين حلفاء واشنطن، وبهذا المنظور تم إعادة تحديد القيمة الأعلى لتركيا على حساب الرؤية السعودية، والعمل على صياغة دور واشنطن الجديد من طرف في الصراع إلى مدير للصراع، والذي كانت نتيجته إعلان الانسحاب الأمريكي من شمال شرق سورية في أواخر العام الماضي.
من هذا المنظور عمل ترامب على تغيير سلوك ورؤية محمد بن سلمان بما يمثله من المشروع والرؤية الجديدة للسعودية والتي تصنف تركيا كعدو، بما ينسجم مع رؤية ترامب، ومشروعه في المنطقة، بالشراكة مع أنقرة، لتضع الاستخبارات الأمريكية والتركية خطة واحدة بطلها الخاشقجي، تكمن في إرساله بذريعة تثبيت زواجه في السفارة السعودية في تركيا، لاستدراج محمد بن سلمان وفريقه لخطفه وإعادته إلى السعودية قسراً، وبهذا الحدث يتم إطلاق أول حركة سعودية داخلية معارضة تستهدف ابن سلمان وسياساته بموجة إعلامية جارفة، كوسيلة بيد ترامب للتحكم بالسياسة الخارجية السعودية بما يتوافق مع مخططاته الجديدة في المنطقة، مع تهديد ابن سلمان باستبداله بأخيه خالد بن سلمان سفير المملكة حينها في واشنطن، (وهو أحد أسباب عدم اختيار السفارة السعودية في أمريكا لتنفيذ العملية).
وليست واشنطن وأنقرة وحدهما من كانتا تحيكان مشروعهما الخاص، ليتضح فيما بعد أن الاستخبارات البريطانية (MI6) كانت على علم بالأجندة التركية الأمريكية، وحاولت أن تلعب لعبتها الخاصة، حسب ما نشرت صحيفة “Daily Express” في 24/10/2018 وأفادت فيه بأن لندن علمت مسبقًا بأن خاشقجي في خطر، ونقلت الصحيفة في هذا الصدد عن مصادر في الاستخبارات البريطانية أن الأجهزة الأمنية اعترضت محادثات لضباط في الاستخبارات السعودية، أمروا باختطاف خاشقجي في تركيا ونقله إلى الرياض، وسمح لهم بالتصرف حسب الظروف في حال لاقوا مقاومة من خاشقجي، ووفق الصحيفة، هذه المعلومات وصلت إلى لندن قبل ثلاثة أسابيع من اغتيال خاشقجي، وناشدت السلطات البريطانية نظيرتها السعودية عدم تنفيذ العملية، حيث كانت ترغب بريطانيا باختطافه مسبقاً بذريعة حمايته، للضغط على الرياض نحو طرح شركة أرامكو في بورصة لندن وليس نيويورك، علماً أن وزير الخارجية البريطاني كان قد نفى ذلك بعد أسبوع من صدور تقرير الصحيفة.
وبغض النظر عن الأطراف التي حاولت المشاركة في العملية واستجرار ورقة ضغط لصالحها، إلا أن المؤكد أن الجميع كان لديه علم مسبق بنية الرياض خطف الخاشقجي وليس قتله، وبمجرد اختفائه وتأكيد خبر مقتله، حدث الإرباك الأكبر بالنسبة لكل من أنقرة وواشنطن، وساد الصمت لوقت طويل في البيت الأبيض عن التعليق، فمقتل خاشقجي لم يكن مدروساً، ولا معداً له، بأي شكل من الإشكال خلال ترتيب العملية، ما دفع أنقرة لاستغلال الحدث وتحويل الجهود نحو الإطاحة الكاملة بابن سلمان وليس فقط الاكتفاء بإطلاق معارضة له، والضغط عليه.
هذا الاتجاه كان قد اقتنع به الرئيس الأمريكي ترامب ليكون أول من يوجه اتهام مباشر لمحمد بن سلمان بقتل جمال خاشقجي، ولكن شيئاً ما خلف الكواليس قد حدث وطوى ملف الخاشقجي حينها، وحتى ترامب لم يعد يملك القدرة على المناورة في الملف، فما هو؟
اتصال واحد في 10/10/2018 قلب كل المشهد رأساً على عقب، حيث اتصل محمد بن سلمان بجاريد كوشنر صهر دونالد ترامب وكبير مستشاريه، وليس السبب في ذلك منصب كوشنر الرسمي، وإنما لعلاقته الوطيدة كيهودي صهيوني بمالكي البنك الاحتياطي الفدرالي، البنك الذي يلعب دور البنك المركزي للولايات المتحدة الامريكية، والمسؤول الوحيد عن طباعة الدولار، ليتدخل البنك لصالح ابن سلمان، وتمارس ضغوطاً شديدة على ترامب في سبيل ذلك، حتى وصل الأمر لتأثير الاحتياطي الفدرالي على الاقتصاد الأمريكي وضغطه على الأسهم الأمريكية التي تراجعت بشدة، بعدما هاجم ترامب رئيس مجلس الاحتياطي الفيدرالي الأمريكي، واصفًا إياه بالمشكلة الوحيدة التي يعاني منها اقتصاد بلاده.
هذا التدخل لإنقاذ ابن سلمان لم يكن مجانياً على الإطلاق، بل كان اتفاق مقايضة على مستقبل ابن سلمان الملكي بالقضايا العربية والإسلامية الأساسية لمصلحة الكيان الإسرائيلي، هذا الاتفاق كان على مرحلتين تمثلت الأولى بموافقة المملكة على زيارة نتنياهو لسلطنة عمان في 28/10/2018، وإطلاق خط سكك السلام الحديدية التي تربط سلطنة عمان والإمارات بميناء حيفا، وهو مشروع مدمر لمستقبل كل من لبنان وسورية ويفقدهما جزء كبير من أهميتهما الجيوسياسية بالإشراف على المتوسط، ويقوض مستقبل اقتصادهما.
أما المرحلة الثانية وهي الأخطر تكمن في موافقة السعودية على صفقة القرن، كدفعة ثانية من ابن سلمان للحفاظ على مستقبله الملكي، لكن بخطوة مفاجئة، يقوم الملك سلمان بسحب الملف الفلسطيني من ابنه ولي العهد منذ بداية هذا العام، بحركة التفافية على الاتفاق السابق، وذلك بحسب ما أعلن مسؤول دبلوماسي إسرائيلي على القناة العاشرة الإسرائيلية في 11/02/2019، هذه الحركة الالتفاقية دفعت بالرياض لتحريض السلطة الفلسطينية بعدم الموافقة على أي قرار أو صفقة أو تسوية، وتصعيد الوضع مع الاحتلال الإسرائيلي بعدم قبول الأموال الفلسطينية منقوصة، بعد أن صادقت الحكومة الإسرائيلية على تنفيذ قانون يقضي باقتطاع أكثر من (500 مليون شيكل) من أموال المقاصة الفلسطينية، عقاباً للسلطة الفلسطينية على استمرار تمويلها ودفعها رواتب شهرية ومخصصات مالية لعوائل الأسرى والشهداء الفلسطينيين، حتى ولو أدى ذلك إلى انهيار السلطة الفلسطينية بالكامل، في حين تعلن الممكلة عن مشاركتها في مؤتمر البحرين والذي يعد مقدمة لصفقة القرن، ولكن بدون فعالية حقيقية لغياب الطرف الفلسطيني كطرف أساسي ومعني بالتسوية.
هذه المناورة التي قامت بها الرياض بعد عقد ولي عهدها اتفاقاً مع كبار الصهاينة في هذا العالم، دفع بهؤلاء إلى العديد من الإجراءات منها الضغط على الكونغرس ليتجه ضد السعودية ومصالحها، ووصلت في نهاية الأمر إلى إعادة فتح ملف الخاشقجي على يد “أنييس كالامارد” المحققة الخاصة، ومقررة الأمم المتحدة المعنية بحالات الإعدام خارج نطاق القضاء، وجر اسم ولي العهد مباشرة إلى الملف والادعاء الفوري بالتقرير بتورطه، مع أن الأدلة التي عالجتها هي أدلة استخباراتية بالدرجة الأولى، وتدل ليس فقط على الجريمة التي وقعت في السفارة، وإنما على تنصّت الاستخبارات التركية على السفارة السعودية في ذلك الوقت.
هذا الملف سيضع الملك سلمان بين خيارين لا ثالث لهما، إما أن يضحي بابنه وولي عهده ويقبل باستبداله بخالد بن سلمان وقيام مصالحة كبرى بين السعودية والإخوان كنتيجة طبيعية لانتهاء محمد بن سلمان ورؤيته مقابل عدم تمرير صفقة القرن، أو أن يقبل بالضغط على السلطة الفلسطينية بالقبول بصفقة القرن ضمن المنظور الصهيوني وإنهاء ملف الصراع العربي الإسرائيلي بشكل نهائي وإلى الأبد.
في الحقيقة الخيارات المتاحة للرياض قد تأخذ شكلاً أعقد من هذين الخيارين، وقد تؤدي بالنتيجة إلى مواجهات ذات أبعاد متعددة مع المؤسسات الأمريكية والصهيونية، وقد تستفيد السعودية من التصعيد الحاصل بين إيران وأمريكا في ضبط أبعاد الصراع بينها وبين واشنطن، وتقحم روسيا كطرف منافس لواشنطن في اجتذاب الرياض، ولكن المؤكد أن الأشهر القليلة المقبلة ستشهد تصعيداً حاداً في الخطاب المعادي للمملكة على خلفية هذا الحدث، وسيتحول هذا الخطاب إلى خطاب انتخابي بين المرشحين الرئاسيين في الولايات المتحدة الأمريكية.