ترامب وبومبيو هندسة استراتيجية محدثة وترتيب جديد للأولويات!
ليس خفياً على أحد نية ترامب الانسحاب من شرق سوريا، فهو قد تحدث بها مراراً وتكراراً، إلا أن العوائق التي كانت تمنعه من هذا الانسحاب أكبر من أن يمتلك تبريراً لها أو يتجنب مساوئها، فالبنتاغون الذي عدل مهمة القوات الأمريكية وأضاف عليها مواجهة إيران، والتناقض الحاصل بين مشاريع حلفاء أمريكا في سوريا، حيث الخليج العربي ودعمهم للأكراد في وجه تركيا وإيران من جهة، والشراكة التركية الأطلسية المهددة بدعم واشنطن لقوات سورية الديمقراطية من جهة أخرى.
هذه العوائق وتشابك وتناقض مصالح وأهداف الجميع، جعل من الولايات المتحدة الأمريكية تظهر على أنها مشكلة العالم، ومشكلة الحلول السياسية والدبلوماسية، وهي الصورة التي يسعى ترامب جاهدا لقلبها بشكل كامل، وتحويل أمريكا إلى حاجة لكل دول العالم وضامن دولي للأمن والسلم الدوليين، ورادع لقوى الشر والقوى المخربة الصاعدة حسب التصنيف الأمريكي.
وبالرغم من طرح واشنطن لمبادرات سابقة في شرق سوريا، كاستبدال التواجد الأمريكي بتواجد عربي، لغاية التحول من مشكلة وطرف في الصراع إلى إدارة الصراع، إلا أن هذه المبادرات فشلت، بسبب الفشل الأمريكي بتأمين طريق من التنف إلى الشرق السوري.
إلا أننا نعتقد بالتحليل، أن زيارة الرئيس السوداني إلى دمشق بطائرة وزارة الدفاع الروسية، كانت استجابة أمريكية روسية مشتركة لتهديدات تركيا الجدية بإطلاق عملية عسكرية شرق الفرات، والتي من الواضح في هذه الحالة أنها -زيارة البشير- حملت معها مبادرة لحل معضلة التواجد الأمريكي بعودة دمشق إلى الجامعة العربية وطلب دمشق دخول قوات عربية وإدخال البشمركة العراقية، بالإضافة إلى دور دمشق كوسيط مع حزب الله من أجل خروقات القرار1701، مقابل الموافقة على اللجنة الدستورية وتمريرها في مجلس الأمن والشروع في الحل السياسي في سوريا دون تعطيلات أمريكية.
هذه المبادرة تطلبت شرطين أساسيين الأول زيارة الرئيس العراقي والتنسيق مع دمشق لإدخال البشمركة، والثاني قبول قوات سوريا الديمقراطية بذلك، والذي يعني على المدى البعيد تحويل الكتلة الكردية من كتلة عدو لتركيا إلى صديق وحليف كحال كردستان العراق.
ولكن ومن دون سابق إنذار تنهار كل هذه المبادرات والتحركات ويعلن ترامب انسحاب مفاجئ وغير مشروط من الشرق السوري إلى الحدود العراقية!!!
رفض قوات سوريا الديمقراطية الموافقة على كل المبادرات الأمريكية، ورفض أيضا دخول البشمركة إلى شمال شرق سورية، حال دون نجاح أي مبادرة أمريكية قد تحمل حلاً وسطياً بين مايريده ترامب ومايراه البنتاغون، ودفع برؤية ترامب للصدارة، لتصبح الأفضل بين كل الحلول، على فرض وجودها، فهو قد مرَّ بمثل هذه المواقف بعالم التجارة والأعمال بكل تأكيد، حيث يرفض شريك مهم خفض سقف أرباحه، والوصول إلى حلول وسط ترضي الشريكين ولاتهدد أحدهما الآخر، وردة الفعل الطبيعي للشريك الأقوى هو إخراج الأضعف من السوق وذلك بخفض الأسعار إلى حد الخسارة، وهي المضاربة التجارية، ولكن هذه الخسارة ليست دائمة ولا مؤذية بالنسبة لترامب، وإنما فقط للانتقال لمرحلة جديدة وشراكة أكثر أمان وفائدة ومتانة.
هذه العقلية التجارية لترامب ومحاولاته إقحامها بالاستراتيجيا، دائما ما كانت تفشل بسبب تعقد الملفات، وارتباطها وتأثيرها ببعضها البعض، حيث يمكن تعميم أي فعل موجه لطرف ما إلى باقي الأطراف أو الشركاء الدوليين، وليست حكراً على صفقة سرية ومناورة خفية بين طرفين أو جهتين كما هو الحال في عالم الأعمال، وإصرار ترامب على إقحام أساليبه الخاصة في الاستراتيجيا، دفعه إلى تبديل أعضاء إدارته بشكل دائم، حتى يجد من يستطيع هندسة هذه الوسائل في هندسة استراتيجية محدثة في السياسيات الأمريكية.
وجد ترامب ضالته في بومبيو والذي قام ببناء منظور أمريكي جديد يتناسب والوسائل الترامبية الخاصة، حيث بدأ بومبيو برسم مثلث جديد للنفوذ والتأثير يعيد معها ترتيب الأولويات الأمريكية في الملفات الخارجية وكيفية التعاطي معها، فجعل من النفوذ العسكري الزاوية القائمة لمثلثه، والتي تحدد كل من النفوذ السياسي والنفوذ الاقتصادي كزاويتين حادتين، فإذا تمكن ترامب من النفوذ العسكري وهو يمتلك بالأساس النفوذ الاقتصادي على كل الاقتصاد العالمي، أصبح النفوذ السياسي بلا تأثير يذكر على الاستراتيجية الدولية لواشنطن…
وهو فعليا المنظور الذي استخدمه ترامب لمضارباته الاستراتيجية، حيث أعاد تقييم المناطق الجيواستراتيجية بمناطق ذات الثقل الكبير والمناطق ذات الثقل الضعيف، ما رشح العلاقات التركية الأمريكية إلى أن تتصدر أولويات السياسة الخارجية الأمريكية على حساب العلاقة مع الخليج العربي الذي يمكن التحكم به بزوايا المنظور الأخرى، كون تركيا منطقة نفوذ عسكري وثقل جيواستراتيجي كبير وممر روسي أساسي من البحر الاسود إلى البحر المتوسط.
على هذه القاعدة شرع ترامب لخلق فراغ مقصود في شرق سوريا كفراغ عقيم، وقدم لأردوغان كل ماكان يحلم به سابقا لترميم العلاقات الثنائية، إلى درجة تسرب بعض الشائعات في تركيا بالسماح لواشنطن بدراسة S-400 الروسية، بالرغم من أن هذا الانسحاب من المحتمل أن يصب في صالح وحدة الجغرافية السورية والذي يعد أمراً جيداً، إلا أنه بكل تأكيد لن يصب في صالح نهاية الحرب وإزالة التناقض بين الأطراف الفاعلة في سورية، بل على العكس تماما، فمجرد إعلان الانسحاب الأمريكي، تحول الملف السوري إلى مسؤولية روسية كاملة، كما التصريحات الأمريكية السابقة بتحويل الملف السوري إلى مشكلة روسية، فبوجود القوات الأمريكية كانت واشنطن المسؤول الأساسي عن ضبط أي تصعيد إيراني إسرائيلي يشعل حربا شاملة، وبانسحابها زادت القوات الإيرانية من وجودها العسكري بشكل فوري، وهذا يعني زيادة الضغوطات على المسؤولية الروسية الجديدة بحفظ الأمن الأقليمي، بالتالي نتحدث عن انسحاب أمريكي كان سببا في توحيد الأجندات المتناقضة والمتباينة لأطراف أستانا، لتصبح حاليا في حالة قريبة من التعارض المطلق والسباق البيني، بالإضافة إلى تحويل الصفقات الروسية التركية من نقطة قوة وفرصة لزيادة موسكو لنفوذها العسكري في منطقة بالغة الثقل الجيواستراتيجي إلى العكس تماما.
وهذه ليست الأهداف الوحيدة لترامب، فبعد هندسة وسائله كما شرحنا سابقا، أصبح بإمكانه التأثير على باقي الملفات والشراكات الدولية من خلال سلوكه في سوريا، فرفع من قيمة الناتو بالنسبة لدول أوروبا بقيادة أمريكية، وجعل مطالبه شروط لاستمرار أمريكا كحاجة لحلفائها من ناحية، وكضامن للسلم والأمن الدوليين من ناحية أخرى.
المشكلة لا تتوقف على الأهداف الأمريكية الحالية فقط، وإنما إلى إمكانية السعي نحو أهداف أكثر خطورة وحساسية يستطيع هذا المنظور الجديد تأمين الوصول إليها وتحقيقها في خدمة الاستراتيجية الدولية المعلنة لترامب والخصوم التي حددتها.
فمن خلال هذا المنظور ستتحول الجهود الأمريكية نحو الدعم المطلق لأوكرانيا، وإشعال لأزمة الدونباس وبحر آزوف، والاستفادة من المجلس الاستراتيجي التركي الأوكراني، والتحول نحو الضغط لإنهاء النفوذ العسكري لحزب الله في لبنان، وتحويله إلى سياسي عن طريق دمجه بالدولة والجيش في لبنان، كأحد أهم الطرق لمواجهة نفوذ إيران العسكري، مستعينا بالشرعية الدولية والقانون الدولي، والذي يوفرها له الانسحاب الأخير من سورية، إضافة إلي توتير منطقة البلقان في أوروبا الشرقية، والتوجه نحو إحكام السيطرة على المناطق ذات الثقل الجيواقتصادي وحرمان خصومه الاستراتيجيين منها، والتي تتركز في أفريقيا.
كل هذه الأجندات والأحداث ليست عبثية أو ضرباً من الغباء، إنما هي أسلوب ترامب الخاص الذي طالما بدل في سبيله أعضاء إدارته لتحويل هذا الأسلوب إلى منظور استراتيجي جديد تمكن ترامب بشخصه من إدارة العالم بإدارة أمريكية ترامبية.