“مابين حلب و وارسو… عالم ترسم ملامحه”
صلاح النشواتي-لايزال العالم يترقب بحذر ذالك الاحتقان بين الولايات المتحدة الأمريكية وروسيا الاتحادية كما لا تفارق ذهنه تلك الأحداث الدموية في الحربين العالميتين مع فارق مرعب وهو أن الحرب القادمة ستكون نووية بامتياز وستمسح أمم كاملة عن وجه البسيطة…فمنذ نهوض روسيا واقتصادها وعودتها إلى الساحة الدولية بقوة وعقلانية ارتفع مؤشر (ديفكون) مؤشر الخطر لدى الإدارة الأمريكية حول وجود قوة صاعدة من المرجح أن تنافس الولايات المتحدة الأمريكية على مركزها العالمي، أو يؤدي هذا الصعود بالضرورة إلى اختلال موازيين القوى في النظام الدولي بالتالي تغير شكل النظام من أحادي القطبية إلى متعدد مع مراعاة الصعود الصيني.
وعلى تنوع القضايا الخلافية وتعددها بين روسيا والولايات المتحدة الأمريكية، ومن أهمها نشر الدرع الصاروخية في رومانيا بحجة تحجيم الخطر النووي الإيراني، بينما هي تشكل استهداف مباشر لروسيا، والمناورات العسكرية الصينية الروسية المشتركة، التي جرت في شهر آب من العام المنصرم إضافة إلى الرد الأمريكي بالتنسيق للقيام بمناورة عسكرية مشتركة في بحر الصين الجنوبي مع الفلبين والتي تشكل استفزازاً هائلاً للصين خاصة ومع قضية الجزر المتنازع عليها مع الفلبين ناهيك عن الاختراق للمجال الصيني من قبل قاذفات أمريكية استراتيجية بغية جرها إلى ردود فعل غير مدروسة، مما دفع الصين أيضاً-بعد روسيا التي تبنت عقيدة عسكرية تعتبر من خلالها الناتو العدو الأول- إلى تغيير عقيدتها القتالية إلى الهجوم عوضاً عن الدفاع وزيادة الإنفاق العسكري وزيادة تعداد افراد الجيش الصيني.
إضافة إلى اليد الأمريكية الواضحة في إثارة المشاكل بين الصين واليابان في بحر الصين الشرقي حول المجال الأقليمي والجزر المتنازع عليها، والرد الروسي بتحسين العلاقات (الروسية-اليابانية) والزيارات المتبادلة بين الرئيس الروسي فلاديمير بوتين وشينزو آبي رئيس الوزراء الياباني كاحتواء للمشاكل التي قد تنشأ بينها وبين الحليف الرئيس وتحسين العلاقات الودية بينهما، إضافة إلى غض النظر الياباني عن بناء القواعد العسكرية الروسية في جزر الأرخبيل الواصلة بين الشرق الأقصى لروسيا والجزر اليابانية كطريقة ردع جديدة بعد مشروع تجديد قناة (بينما)، والتي تصل بين المحيط الأطلسي والهادي وبالتالي السماح للأسطول الأمريكي في نصفي الكرة الشرقي والغربي بسهولة في الحركة والالتقاء.
كل هذه الملفات بين روسيا و الولايات المتحدة الأمريكية ومن ضمنها الملف السوري والأوكراني الذي جعل علاقة روسيا بالناتو تنحى نحو المواجهة تخضع للتجميد نوعاً ما.
فضلاً عن ضبط النفس والصبر طويل الأمد والردود الجوابية التي تتناسب مع الفعل
ولاتزيد عنه ولكن السؤال الجوهري إلى متى؟!
فمنذ مدة صرح كيري بنفاذ صبر واشنطن ليلحقه تصريح رئيس الأركان الروسي أن الروس هم من نفذ صبرهم، إضافة إلى الطلب الذي قدمه دبلوماسيين أمريكيين لضرب القوات الحكومية السورية والرد الروسي بكشف الغطاء عن صواريخ جديدة قادرة على حمل رؤوس نووية وطوربيدات ذكية لغواصاتها.
ومن خلال هذه الإضاءة السريعة على بعض القضايا الخلافية بين كل من روسيا والصين والولايات المتحدة الأمريكية نجد أن الملف السوري هو الملف الأساسي والذي دمج مع باقي الملفات وأصبح النقطة الساخنة التي يتقابل عندها الفرقاء وجها لوجه، مما وضع سورية والمعارك الدائرة فيها تحت المجهر الدولي وخاصة أنها تحتوي على نكهات متعددة وصيغة تختزل من خلالها صيغ جميع الملفات العالقة بين الدول العظمى، فمن مكافحة الأرهاب إلى حدود وقف إطلاق النار بين سورية والكيان الإسرائيلي، إلى مناطق النفوذ لكل من روسيا والولايات المتحدة الأمريكية إلى المكاسب الاقتصادية التي تحاول الصين تحقيقها من خلال مبعوثها الخاص في سورية، حتى وصل هذا الصراع الدولي بنموذجه السوري إلى مرحلة الاستقرار القلق الذي وافقت عندها كل من روسيا والولايات المتحدة الأمريكية على مساحة مناطق النفوذ لكل الأطرف -بغض النظر عن مصالح دول الأقليم-
للانطلاق بعملية تسوية سياسية يرافقها وقف إطلاق النار والعمليات القتالية والتركيز على الأمن القومي لدول الجوار والأمن والسلام الدولي كركيزة أساسية ضمن هذا المنطلق.
ولكن ومع تعارض مصالح الحلف الغربي بين بعضهم البعض ومحاولة بعض الدول ذات النفوذ الأقليمي مثل السعودية وتركيا فرض واقع جديد على الأرض السورية يتناسب مع رؤيتهم هم للوضع الذي يسمح بإطلاق عملية سياسية وبالتالي إفشال الجهود الأممية في حلحلة الأوضاع في سورية، فرض منطقاً جديداً لتعامل الولايات المتحدة الأمريكية مع المجموعات المسلحة والوفد السياسي المفاوض بحيث حاولت إعادة ضبط هذا التفلت الأقليمي من قبل حلفائها من خلال تأخير تصنيف الجماعات المسلحة وبالتالي وضع خطط كفيلة بضمان مرجعية الحل للأجندة الأمريكية لا للمصالح الخاصة لدول الأقليم ومنها استبدال وفد الرياض بوفود أخرى مثل منصة القاهرة ومنصة قاعدة حميميم ومنصة موسكو، إلى أن جاءت الاستجابة السعودية متمثلتاً باستقالة (علوش والزعبي) من وفد الرياض وزيارة محمد بن سلمان ولي ولي العهد السعودي لواشنطن، كما تمثلت الطاعة التركية بتقليص سقف الطموح والأحلام الأردوغانية وخاصة بالدعم الأمريكي لأكراد سورية والذي يشكل أسوأ كابوس لتركيا مما يحمله من نكهة الانقلاب على واقع دولة أتاتورك وحدودها وعلى واقع التمدد الأردوغاني ويشكل -الأكراد- حاجزاً طبيعياً وديموغرافياً في وجه التقدم التركي نحو الجنوب.
وانطلاقاً من استعادة الولايات المتحدة الأمريكية زمام المبادرة في الملف السوري مقابل روسيا وتحويل القوى الفاعلة من قوى أقليمية ذات مصالح من نفس الطابع الأقليمي، إلى قوى دولية تتمثل بحلف الناتو من قوات خاصة أمريكية وبريطانية وفرنسية وألمانية وغيرها ممن يتحضر للدخول إلى سورية، مع الأخذ بعين الاعتبار بناء قاعدتين أمريكيتين للدعم اللوجستي للأكراد في الرميلان، وقاعدة فرنسية في عين العرب، مقابل القواعد الروسية في طرطوس وفي حميميم.
كما احتدم اللقاء بشكل أكثر فعالية بعد عقد اجتماع فيينا3 وتأكيد على قصف المجموعات الإرهابية والتنسيق المشترك لضمان وقف إطلاق النار والرد على الخروقات، لكن لم يكن من الولايات المتحدة الأمريكية إلا التجاهل التام لما تم الاتفاق عليه مما دفع الروس إلى تبني آلية الرد أحادي الجانب في حلب على الخروقات وقصف مواقع جبهة النصرة، وماكان من الولايات المتحدة الأمريكية عند توجهها إلى الرقة بطلب مدة زمنية كمهلة لفصل قوات المعارضة عن النصرة، وكان الطلب على شكل اتصال هاتفي بين واشنطن وموسكو ووصول هاري ترومان حاملة الطائرات الأمريكية إلى المتوسط وقصفها لمواقع تابعة لداعش في سورية.
وبينما يستمر خلط الأوراق الأمريكي في سورية والمتوسط والبحر الأسود يتمهل الروسي بعقلانية وصبر وحكمة في التعاطي مع القضايا وكانت آخر هذه الرسائل الفاعلة حقيقة والتي تنم عن استعداد لدول متحالفة فيما بينها على خوض حرب موحدة كرسالة للمجتمع الدولي، هي اجتماع وزراء الدفاع الثلاثي في طهران لكل من روسيا وإيران وسورية، تلاه نظام التهدئة في حلب والذي لم تلتزم به المجموعات المسلحة التزاماً كاملاً وبالتالي كانت تتقدم في ريف حلب الجنوبي لتعيد رسم مناطق نفوذ جديد لصالح الأجندة الأمريكية والرؤية الغربية في الأرضية الميدانية لانطلاق الحل السياسي، وهو مادفع بشويغو وزير الدفاع الروسي للقيام بزيارة شخصية للرئيس بشار الأسد لطمئنته حول أن خطط الرد واستعادة حلب كاملة موجودة، ولكن كان الصبر الروسي في سبيل احتواء الموقف من أن يكون هناك صدامات مباشرة بين الدول العظمى في سوريا مما يضفي في نهاية الأمر إلى حرب عالمية قد اكتملت اصطفافاتها ولا أحد يرغب بها.
ولكن ماهو مدى هذه العقلانية الروسية والواقعية في العلاقات الدولية وإلى متى هذا التريث باستخدام القوة -وهو ما يعادل امتلاكها-؟
الحقيقة أن المدى الزمني الذي يعتمده الروس هو قمة حلف الناتو في وارسو عاصمة بولندا وما يمكن أن يتمخض عن هذه القمة بحيث في حال قرر الحلف فعلا نشر الكتائب الأربعة وشحن الدرع الصاروخية في بولندا حينها سيبدأ الرد من حلب كردود جوابية وتصبح الولايات المتحدة الأمريكية مسؤولة عن انهيار التفاهمات في كل الملفات العالقة ولكن وكما يتوضح من خلال التصريح للأمين العام لحلف الناتو (ينس ستولتنبرغ) من خلال تأجيله للاجتماع بين الناتو-روسيا إلى مابعد القمة وقوله: (نخوض الآن حوار مع روسيا بشأن الأجندة والشكليات) أن الناتو يلعب مع روسيا استراتيجية سياسة حفة الهاوية أي يحاول أن يعرف ويتلمس موقعه في الهرم الدولي دونما أن يتسبب بكارثة أو حرب عالمية وإنما يقوم بالدفع قدر الأمكان للحصول على أكبر المكتسبات ولكي يرث الحصة الأكبر من انهيار الأحادية القطبية في النظام الدولي بحيث لم تعد الولايات المتحدة أقوى الأقوياء وإنما هي أحد الأقوياء لذلك لابد من بعض المشادات الجوابية بين الدولتين بعد انعقاد قمة الناتو ولكنها لن تصل إلى حد نشوب مواجهة عسكرية وستشهد حلب بالمقابل، وحلب كركيزة للحل السياسي في سورية وكنقطة خلاف بين روسيا والولايات المتحدة الامريكية ستشهد تجميداً جديداً بحدود انتشار المجموعات المسلحة مقابل تراجع النصرة وتثبيت مناطق سيطرة الدولة مما يدفع بالحل السياسي في سورية وبالتالي بداية حل الملفات العالقة تباعاً وتبلور النظام الدولي الجديد وماهيته.