روسيا تعيد ترتيب الأسنان التركية…فهل تتحول إلى مفتاح للأبواب الخلفية؟!
مشهد غامض ومربك يعمُّ العلاقات الروسية التركية أدخل الكثير من المراقبين بحيرة حول مآل هذه العلاقة المستحدثة، فمن جهة نرى تسهيلات روسية واتفاقيات جوهرية تكاد تغيب الفائدة منها للجانب الروسي، ومن جهة آخرى نرى تغريداً تركياً لايخدم إلا مصالحها الخاصة، بعيداً عن أي رد للجميل أو مراعات لمصالح موسكو، فمن دخول الجيش التركي إلى أدلب وتطويق عفرين التي تتمتع بحماية روسية، إلى قيود استيراد المنتجات الزراعية الروسية وصولاً إلى أنباء عن تعليق استقبال السفن المغادرة من القرم في الموانئ التركية
، ردود فعل تكاد تخلو تماماً من أي مظهر من مظاهر بناء علاقة شراكة استراتيجية مع موسكو، فلماذا تستمر روسيا بتقديم مغرياتها والتي وصلت لدرجة بيع منظومة الدفاع الجوي الأحدث على الأرض S-400)) وحتى توطين صناعتها في تركيا؟
بكل تأكيد لاتعاني القيادة الروسية من أي عقد مازوخية (حب الضحية للجلاد) في علاقتها مع الدول الأخرى، بل إن المنظور الذي ترى منه الدبلوماسية الروسية هو منظور استراتيجي غاية في الدهاء، حيث تعمل على تحويل العلاقات مع تركيا إلى نموذج جديد في العلاقات الدولية تجذب من يريد التفلّت من الفلك الاطلسي وسياسة الفرض والإذعان الأمريكية، نحو الفلك الأوراسي، وهو مايتطلب إعطاء نموذج صادق من قبل موسكو لتحتذي به الدول الأخرى، سعياً نحو إخضاع العلاقات الدولية لتأثير الدومينو فيما بعد، حيث تصدّر موسكو نفسها على أنها الحليف الحضاري والذي يحترم الأسس الداخلية للامن القومي للدول الحلفاء، على عكس واشنطن التي تفرض على حلفائها إعادة تعريف أمنها القومي ليتناسب مع رؤية صناع القرار الأمريكي، وهو مايتطلب أيضاً تنازلات روسية ولو محدودة في نموذج العلاقات مع أنقرة، مع الحفاظ على الضوابط التي تحمي المصالح الاستراتيجية لروسيا، حيث تشكل تركيا بالدرجة الأولى خرقاً للطوق البري الجيواستراتيجي التي تحاول واشنطن بنائه من أفغانستان وصولاً إلى دول البلقان، والتي لم يمضي على سبيل الذكر عدة أيام قبل تصويت البرلمان البلغاري على اعتبار روسيا تهديد للأمن القومي البلغاري، وصولاً إلى دول البلطيق ونشر كتائب الناتو فيها، مايجعل توجه موسكو نحو بناء علاقات استراتيجية مع تركيا توجهاً حكيماً، يبطل أثر مشروع التطويق الأمريكي، وفي ذات الوقت يجعل منها تجربة واضحة لدول الأطراف التي يصيبها الرعب والأذى من التوتر الأمريكي الروسي والعقوبات الاقتصادية الأمريكية على موسكو، ويبدو أن هذا الأسلوب الروسي المتبع مع تركيا قد بدأ يؤتي أكله، فزيارة أردوغان إلى أوكرانيا ولقائه الرئيس بورشينكو، كان مثمراً بالنسبة لموسكو في احد جوانبه، حيث أكد أردوغان على ضرورة تطيبق اتفاقيات مينسك والتي تشكل روسيا أحد اهم الاطراف فيها، بالإضافة إلى فرنسا وألمانيا وأوكرانيا، وهي الاتفاقية التي تحاول كييف التملص منها قدر الأمكان، والاستمرار في تزكية النزاع في أقليم الدونباس جنوب شرق أوكرانيا، وحتى التعاطف الذي أبداه أردوغان فيما يخص تتار القرم كان نابعاً من مبدأ تصدير تركيا لنفسها كند قوي في تفاهماتها مع موسكو، مع تحفظ موسكو على موضوع القرم دوناً عن الزيارة ككل، ولم يمضي سوا عدة أيام على عودة أردوغان إلى بلاده حتى تلقى دعوة حضور أخرى من ساحة لاتقل لهيباً عن أوكرانيا، حيث دعا أنجي دودا رئيس بولندا أردوغان إلى زيارته، في الوقت الذي تشهد وارسو أشد موجات التصعيد ضد موسَكو والتي تمثَّل آخرها بنقل فرقة المدرعات الأمريكية من الأراضي الألمانية إلى بولندا، مايعني محاولات واضحة من قبل الدول المتأثرة من السياسة الامريكية ضد روسيا لفتح باب خلفي مع موسكو عن طريق تركيا، يضمن التواصل الفعال والانجذاب الآمن دون إثارة ردة الفعل والسخط الأمريكي ضدها، على شاكلة التصعيد ضد إيران لضبط التقارب السعودي مع روسيا، أي بالمحصلة نموذج العلاقات التي تحاول روسيا تعميمه عبر احتواء الأطماع التركية وإعادة ترتيبها جعل من تركيا مفتاحاً للأبواب الخلفية يمهد لسحب البساط من تحت أقدام الإدارة الأمريكية ببطء وهدوء، وانتقال العديد من دول العالم العالقة في الفلك الاطلسي باتجاه الجذب الاوراسي، مايعزز من مكانة روسيا الدولية ويسرع في تبلور شكل النظام الدولي دون صدامات مباشرة مدمرة، وبصيغة آمنة قدر الأمكان.