بريطانيا تواجه مخاوفها … والقدس بوابة العودة
صلاح النشواتي
مايقارب 77 عاماً على أفول النجم البريطاني كأحدى الدول العظمى التي تصنع السياسات الدولية وتتحكم في جزء كبير من النظام الدولي، وتمتد مستعمراتها إلى أقاصي الأرض شرقاً وغرباً، وبعيداً عن أسباب التراجع وظروفه إلا أنه من المؤكد كان لصالح التقدم الأمريكي وسطوع نجم الولايات المتحدة الامريكية كقوة عظمى ووحيدة فيما بعد، مادفع بريطانيا إلى الاتكاء على الولايات المتحدة الامريكية في تحقيق مصالحها المشتركة، ومواجهة الأخطار التي يحددها الأمن القومي البريطاني، هذه المعادلة هي التي حكمت لفترة طويلة طبيعة الدور البريطاني في العالم،
كدولة من النسق الثاني في النظام الدولي تتحالف مع القوة العظمى الوحيدة، وتضرب بسيفها في مواجهة التهديدات القومية عبر تحالفات عسكرية دولية كحلف شمال الأطلسي (الناتو)، إلى حين استيقاظ العرش البريطاني من ثباته العميق، وأحد أعظم التهديدات القومية لبريطانيا -حسب روؤيتها- هو تعاظم الدور الروسي وزيادة ثقل موسكو بما يمهد لانزياح الدول الاوروبية الشرقية ودول الشرق الأوسط للفلك الأوراسي، ويحكم سيطرة روسيا فيما بعد على كامل أوروبا وأجزاء كبيرة من آسيا، أي أن كل تلك الأجزاء التي تعتبرها بريطانيا من منجزاتها الأساسية في العالم تشهد في الوقت الراهن تزايد للنفوذ والدور الروسي فيها، وما أثار المخاوف العميقة لبريطانيا هو الدور الأمريكي المتزايد في الشكل والمتراجع في الفعالية، وهو ما دلت عليه العديد من المؤشرات المهمة قارعةً معها ناقوس الخطر، ابتداءً من إعلان صربيا أحد دول أوروبا الشرقية عدم اهتمامها في الانضمام إلى الناتو، وافتتاح ممثلية لجمهورية دونيتسك المعلنة من جانب واحد في أوكرانيا لدى كل من فلندا والتشيك، والمد الروسي الذي بدأ من البحر الأسود وثبّت في البحر المتوسط، والاستطلاعات الألمانية التي تظهر زيادة ثقة الألمان في روسيا على ثقتهم في أمريكا، وصولاً إلى الشراكة النووية مع كل من مصر والأردن والإمارات، والمشاركة الروسية في المشاريع الاقتصادية الاستراتيجية السعودية، واتفاقات الذهب والتبادل التجاري مع السودان، يضاف عليها اتفاقيات تعزيز الشراكة وتوريد السلاح إلى الجزائر والمغرب، هذه الساحات التي تحاول روسيا شغلها اليوم بالتحديد، هي دول تعتبرها بريطانيا ساحات أوروبية خاصة ومن منجزاتها الاستعمارية القديمة، وتتكئ عليها في إعادة انطلاقها كدولة عظمى، بالتالي مؤشرات تعتبر سلبية للغاية، وتدل على انخفاض مفعول الاعتمادية الأوروبية على الولايات المتحدة الأمريكية والبريطانية على وجه الخصوص، خاصة بعد فشل الاستراتيجية الأمريكية الجديدة في الكثير من المواضع والتسرع غير المدروس أو (المفرمل) في القرارات الاستراتيجية من قبل البيت الأبيض تماماً كحال المدرعة الأمريكية الثقيلة التي انقلبت في بولندا بسبب تعطل الفرامل والتي من المفترض أنها ذهبت لتكبح قوة عسكرية كبرى كالجيش الروسي، وقد شكل قرار نقل السفارة الأمريكية إلى القدس أوضح تجليات فقدان الفرامل العقلانية في اتخاذ القرار، والذي يأتي بعد الحديث عن انسحاب أمريكي من الاتفاق النووي الإيراني، ما حوّل واشنطن في الوقت الراهن إلى جزء من صراعات المنطقة بدلاً من دورها التقليدي المبدع في خلق الصراعات وإدارتها بما يحقق مصالحها وحلفائها، بالتالي وضع بريطانيا أمام خيار وحيد يكمن في تحويل الدور البريطاني من دور مكمل غير أساسي في صياغة استراتيجية الغرب، إلى الدور الريادي، الذي يحتم عليها ملئ الفراغ الأمريكي في عملية توليد الصراعات وإدارتها، والسعي للوقوف في وجه تمدد النفوذ الروسي، وهي الاستراتيجية الجديدة التي باشرت بها الحكومة البريطانية، حيث اتجه وزير خارجيتها بوريس جونسون لزيارة عمان والتي تحمل من الرمزية ماتحمله سويسرا في الحياد أيام الحروب الأوروبية، ليتجه بعدها إلى إيران ليأكد ألتزام بريطانيا بالاتفاق النووي الإيراني، بذات التوقيت الذي تدعو فيه الحكومة البريطانية الرياض لرفع الحصار عن اليمن بعد أن كانت شريكة للسعودية ومؤيدة لها في ماسمته الأخيرة “عاصفة الحزم”، كل هذا الحراك البريطاني تزامن مع الإعلان الأمريكي حول القدس، والذي واجهته الدولة المؤسسة للكيان الإسرائيلي برفض ثلاثي لكل من (تيريزا ماي، صادق خان، ماثيو رايكروفت)، وأعلنت من خلال هذا الرفض انعدام أي نية في نقل السفارة البريطانية إلى القدس وأكدت أن القدس مدينة محتلة، مايشير إلى أن بريطانيا تحاول حياكة لعبة خطيرة جديدة في الشرق الأوسط من بوابة القدس، فقدرة الحكومة البريطانية على إقناع الآيباك (لجنة الشؤون العامة الأمريكية الإسرائيلية) الداعم الأساسي والوحيد المتبقي تقريباً لترامب في واشنطن للضغط نحو العدول عن القرار أو تفريغه من محتواه على أقل تقدير هي قدرة واقعية ولكن من مبدأ المصلحة الإسرائيلية، وليس من منطلق حسن النية أو خوفاً على المشاعر العربية والإسلامية، وهي الورقة التي تحتاجها لندن لتفاوض عليها دول الشرق الأوسط ومحور المقاومة على وجه الخصوص، بمقابل عودة الدور البريطاني بشكل مستقل عن الأمريكي في المنطقة والتصدي غير المباشر لتمدد النفوذ الروسي، والسعي نحو تحجيم دور موسكو وحتى محاولة تفكيك تحالفاتها الأخيرة فيما بعد، وهي النية الحقيقية التي عبرت عنها بريطانياً علناً على لسان وزير دفاعها غافين ويليامسون حيث اعتبر بريطانيا في “حرب فاترة” مع روسيا متهماً إياها بأنها تحاول “الإضرار بالمصالح البريطانية” بمختلف الطرق، وبمجرد اختيار لندن لمصطلح “الحرب الفاترة” فهي دليل رفع منسوب العدوانية وأولوية المواجهة بخطواط أكبر جدية وفعالية من تلك التي استخدمت إبان الحرب الباردة، فهل تقع الدول العربية مجدداً في فخ بريطاني خبيث يرتدي ثوب القدس، على غرار فخ الاستقلال التي جذبت به الدول العربية لزرع الكيان الإسرائيلي وتفكيك الدولة العثمانية، أم سنشهد بعد معادلات أكثر تعقيداً في الشرق الأوسط…