خطوات ثابتة لبوتين نحو القطبية الدولية
صلاح النشواتي-لاتزال الولايات المتحدة الأمريكية تقاوم التغير الجوهري الذي بدا واضحاً للجميع في بنية النظام الدولي وانتهاء الولاية القطبية الأمريكية على العالم كأقوى الأقوياء إلى أحد الأقوياء ، إضافة إلى محاولاتها المستميتة أن تكرس أكبر قدر ممكن من النفوذ في العالم قبل تبلور نظام دولي متعدد الأقطاب ، مما استدعى رفع درجة القضايا العالمية إلى الحدود القصوى ، وخاصة ضد توسع النفوذ الروسي ، وهو ما يبدو جلياً في كل من الملفين الأوكراني والسوري ، مع تصدر الأخير عناوين هذه المواجهة .
ومن مبدأ الاستعداد للحرب يمنع الحرب ، بدا واضحاً أن روسيا واجهت دعوات مجلس الأمن القومي الأمريكي لتبني الخيار العسكري ضد سورية بزيادة تواجدها في شرق المتوسط وذلك من خلال نشر منظومة s-300 في طرطوس التي أمنت مظلة دفاعية ضد الصواريخ المجنحة والطائرات المعادية فضلاً عن وجود منظومة s-400 لحماية قاعدة حميميم ، مما دفع بإسرائيل إلى الهلع والهرولة نحو روسيا للطلب منها تجديد الاتفاقيات المشتركة المتعلقة بالطيران الإسرائيلي ، بعد أن أصبحت المنظومة الجديدة أشبه بالقبة الحديدية ، ويصل مداها إلى شمال إسرائيل ، إضافة إلى إرسال سفينتين صاروخيتين من ميناء سيفاستوبول في القرم لترابطا مع القطع البحرية الروسية في شرق المتوسط مما يمنح روسيا القدرة الهجومية الصاروخية إضافة إلى تلك القدرة الدفاعية .
لكن الرئيس بوتين يعلم أن هذه الإجراءات غير كافية لضمان الأمن القومي الروسي ، بالتالي كان المشروع بالتطويق الاستراتيجي للعدو ، على مبدأ نظرية ماكندر في الجغرافيا السياسية في أهمية قلب العالم المتمثل بأوروبا الشرقية بالنسبة لروسيا ، والفصل بين الهلال الداخلي والهلال الخارجي وذلك من خلال تفعيل القاعدة الصاروخية في كالينينغراد التي تتوسط كل من ليتوانيا وبولندا وتطل على بحر البلطيق دون اتصال بري بباقي الأراضي الروسية ، والدمج الثلاثي بين نظرية ماكندر ونظرية ألفرد ماهان حول الأساطيل البحرية و نظرية ألكسندر دي سيفرسكي القائمة على التفوق الجوي ومناطق تداخل النفوذ الجوي بين القوى العظمى ، والتي تنص على أن الدولة التي تمتلك التفوق في السلاح الجوي هي من تحكم في مناطق تداخل النفوذ ، وهو ما نلاحظه في تطبيق الرئيس بوتين للدمج الثلاثي في كل من سورية و بحر البلطيق والشرق الأقصى الروسي (بحر-وجواً) .
يحدث ذلك بالتزامن مع العمل على إعادة القواعد العسكرية في كل من كوبا وفيتنام ، والسعي نحو استئجار القاعدة الجوية المصرية في سيدي براني على السواحل الغربية لمصر ، بالتالي تطويق منطقة قلب العالم ولكن ليس بهدف السيطرة العسكرية عليه وإنما لشق الاصطفاف الدولي الحالي وإخراج المنطقة من تحت المظلة الأمريكية والأطلسية بمسارات سياسية تترافق مع العسكرية لردع اي محاولة عسكرية أمريكية ضد الاتحاد الروسي ، ولإجبار دول أوروبا الغربية على تبني مواقف أكثر ديناميكية وأقل تأثراً بالمطالب والمصالح الأمريكية .
من خلال هذه القراءة نستنتج أن روسيا تسعى إلى تمييع المواجهة مع الولايات المتحدة الأمريكية عبر زيادة أماكن التواجد الروسي ، لإزاحة الضغط عن الملف السوري والأوكراني ، وفي نفس الوقت وضع الإدارة الأمريكية في حالة من التخبط والتشتت ، بحيث لاتستطيع التركيز على ملف دون آخر أو تواجد روسي في منطقة دون أخرى ، ويضع مجلس الأمن القومي الأمريكي في حالة من رفع درجة الخطر ( الديفكون الأمريكي ) ، وإعادة الحسابات حول أي مبادرة عدوانية قد تتخذ ضد روسيا بعد إنهاء فكرة الضربة الجزئية ، وسعي روسيا نحو اكتمال أدواتها في العالم والتي تتيح لها أن ترث القيادة الأمريكية ، بالتالي لايوجد خيار أمام الإدارة الأمريكية سوا مايمكن أن يسمى ” استراتيجية المراوحة في المكان ” في الملفات العالقة وأهمها الملف السوري الذي يتصدر المشهد الحالي ، والاستمرار في دعم الجماعات الإرهابية ، إضافة إلى استخدام حالة ” الروسوفوبيا ” كاستثمار مربح بيد الحزب الديمقراطي لدعم كلينتون ، وكفزاعة ضد أوروبا لمحاولة منع أي محاولة للأنزياح الأوروبي نحو أوراسيا ، خاصة مع إعادة إحياء مبادرة خافير سولانا لفكرة تشكيل الجيش الأوروبي الموحد والذي تبنته ألمانيا وتضغط نحو تحقيقه ، وقد حصلت في سبيل ذلك على تأييد رباعية فيشيغرادسكي (بولندا ، تشيك ، سلوفاكيا ، هنغاريا ) إضافة إلى موافقة فرنسية ، بالتالي كيان موازي للناتو ومزيد من الاستقلال عن واشنطن وهو ما يصبح ممكناً في ظل ما سبق ، وهو مايمكن أيضاً من إعادة ترتيب كامل للاصطفاف الدولي يمهد لتبلور نظام دولي جديد متعدد القطبية تكون فيه روسيا أحد أهم الأقطاب .