المقالات

أردوغان من الإسلاموية إلى القومية

صلاح النشواتي-

يأتي الاعتذار الأخير أو إبداء  الأسف الذي أبداه أردوغان للكرملين حول حادثة إسقاط الطائرة الروسية في سورية ومقتل طائرها في سياق الكثير من المتغيرات في السياسية الخارجية التركية، حيث كانت تركيا تحاول استغلال عضويتها بحلف الناتو لمحاولة

جذب التدخل الخارجي في الملف السوري وتأمين المنطقة العازلة والتي تعد الحلم التركي في عمق الحدود السورية-التركية لرعاية مشروعاها الإسلاموي عن قرب وبضمانات دولية كمحاولة منها لإعادة أمجاد الأمبراطورية العثمانية وخاصة في ظل تغير موازين القوى والذي ينذر بتغير التابع الرئيس لهذه الموازين وهو (سايكس-بيكو) وذلك عن طريق إطلاق مشروع تكتل أقليمي بزعامة تركية ومرجعية إسلاموية كعامل أساس لربط القوميات والاقتصاديات المختلفة في المنطقة، وبسبب تعدد نقاط الخلاف بين الناتو وروسيا لم تكن هناك أهمية خاصة بالنسبة للناتو في مشروع المنطقة العازلة التركي وخاصة أنه يشكل مواجهة مباشرة مع روسيا وضمن ملف بالغ السخونة وهو الملف السوري، لذلك ماكان من تركيا إلا محاولة تهديد أمنها القومي ذاتياً من خلال إسقاط القاذفة الروسية والاعتماد على رد الفعل الروسي غير المدروس تجاهها لتحريض الناتو للتدخل وبالتالي تسخير المواجهة لخدمة المشروع التركي في المنطقة، ولكن ماكان من روسيا إلا أن قوضت الاقتصاد التركي من خلال العقوبات الاقتصادية والتي تعد أهم المنجزات لحزب العدالة والتنمية والذي يحقق من خلال الارتكاز عليها شعبيته وأصواته أمام الأحزاب الأخرى، وبالتالي قام الناتو بالرد بشكل عقلاني بعيداً عن المواجهة من خلل نشر منظومة الدفاع الجوي بالتنسيق بين المخابرات الأمريكية وتركيا كخطوة دفاعية لتأمين الأمن القومي التركي ضد التهديدات التي تتذرع بها تركيا، وهذا ما لم يكن كافياً بالنسبة لمشروع المنطقة العزلة مما عرض تركيا ذاتها للعزلة الدولية نتيجة فشلها وأطماعها الجيوسياسية إضافة إلى تأزم العلاقات بينها وبين حلفائها ومعارضتها للحل السياسي للأزمة السورية انطلاقاً من المعطيات الميدانية التي تبلورت بعد التدخل الروسي والتي تراها تركيا غير مناسبة لضمان نفوذ فعال ومؤثر لها داخل السلطة القادمة في سورية ولا تصنع أي فارق يصب في مصلحة المشروع الإسلاموي التركي المزعوم والذي تجذر لدرجة تسمية الجسر الجديد بين بورصة واسطنبول بأسم (عثمان الغازي) مؤسس الدولة العثمانية إضافة إلى نقل جثمان السلطان سليمان شاه من سورية إلى داخل الأراضي التركية، ولكن مع فشل الولايات المتحدة الأمريكية وحلفها لمحاربة الإرهاب في إنشاء جيش من المعارضة المعتدلة ليكون قوة برية بإسناد جوي من التحالف لمحاربة الإرهاب، كبديل عن التنسيق مع الجيش السوري، وتحول كل هذه الفصائل إلى فصائل ذات أجندات أصولية رجعية، دفع بالولايات المتحدة الأمريكية لمباركة إنشاء قوات سورية الديمقراطية وبالتالي التنسيق معه بشكل مباشر، مما وضع القيادة التركية في حالة هيستيريا حقيقية وخاصة أن الأكراد يشكلون العمود الفقري لهذه القوات والتي تعتبرهم تركيا جماعات إنفصالية إرهابية وتقاتلهم في الداخل التركي وتلاحقهم حتى في دول الجوار، ومايحمله هذا التنسيق الأمريكي-الكردي من اعتراف ضمني بالمشروع القومي الكردي إضافة إلى التقدم التي حققته هذه القوات على طول الحدود التركية الجنوبية والذي يعتبر حاجز بشري في وجه المشروع التركي من جهة، وخطر حقيقي يهدد الامن القومي التركي والدولة التركية من جهة أخرى وخاصة مع إعلان مايسمى “روج آفا”، إضافة إلى عدم اعتراض روسيا على فكرة الفدرالية في سورية وإحالتها إلى شأن داخلي سوري وضمن مبدأ حق الشعب بتقرير المصير، من هنا بدأت عملية إعادة الحسابات التركية من جديد حول هذا المشروع الإسلاموي، والذي أصبحت تكلفته تتمثل في انهيار اقتصادي تركي، وخطر على الأمن القومي وتحت سيف انقسام تركيا، إضافة إلى العزلة الدولية وفشل المسلحين التابعين لها بتحقيق إنجازات يمكن الارتكاز عليها داخل الأراضي السورية، للتجاوز بذلك التكلفة أضعاف العائدات، وتحول أردوغان من مشروع سلطان إلى مشروع رئيس سابق أو حتى مخلوع، فكان التراجع التركي نحو المشروع القومي متمثلاً بتعزيز موقع الدولة التركية وإعادة علاقاتها مع دول الأقليم وكسر العزلة الدولية وإعادة بناء اقتصادها واستعادة ثقلها بين حلفائها التقليديين، وكانت الخطوة الأولى نحو العودة إلى المشروع القومي هي إقالة داوود اوغلو والذي يعتبر مهندس المشروع الإسلاموي التركي والمخطط الأول له، والتي أتت بالتزامن مع احتدام الحديث عن الاستفتاء البريطاني حول البقاء في الاتحاد الاوروبي ومايشكله من خطوة مهمة نحو تعزيز مفهوم القومية على حساب التكتلات الدولية أو الأقليمية والاتحادات العابرة للقومية على اختلاف الأسس التي من الممكن أن تقوم عليه هذه الاتحادات، والذي تجسد المشروع التركي في بناءه على اساس ديني في منطقة الشرق الأوسط، لتأتي بعدها نتيجة الاستفتاء وما تشكله من هزة حقيقية للاتحاد الأوروبي وصحوة حقيقية لتركيا والتي كانت تستميت للانضمام للاتحاد الأوروبي، واستمرار تعنت بروكسل على فكرة انضمام تركيا، فما كان من تركيا إلا الهرولة لإعادة موقعها التقليدي منحرفة في سياستها الخارجية بزاوية 180 درجة، لتنطلق بكل إمكانياتها عائدة نحو المشروع القومي التركي فانطلقت مفاوضات التطبيع الإسرائيلي التركي والتي وصلت إلى التطبيع الكامل في العلاقات الإسرائيلية-التركية، والذي استدرجت تركيا من خلاله اعتذار نتنياهو عن ضحايا سفينة مرمرة، كنوع من تفريغ القيمة لمفهوم الاعتذار أمام الداخل التركي والأوساط الإعلامية، تمهيداً للاعتذار من روسيا، والذي أصبح يشكل ضرورة اقتصادية روسية، وخاصة مع المحاولة التركية للجمع بين الغاز الاسرائيلي والقطري وتحويل تركيا إلى عقدة جيواستراتيجية، لتقبل روسيا الاعتذار التركي والذي أنهى لعبة عض الأصابع بصراخ الألم التركي.

ولكن هذه العودة التركية نحو القومية وتطبيع العلاقات مع روسيا قد أغضب المجموعات الإرهابية التي تدعمها تركيا لوجستياً وبالأخص تنظيم داعش الذي أوصل رسالته وبقوة بتفجيرات مطار أتاتورك بحيث كان الاستهداف للأسم ودلالاته القومية والتوعد في حال التخلي الحقيقي عن المشروع الإسلاموي، أكثر من أنه أستهداف لمطار بحد ذاته فيما يعرف عن التنظيم شهيته المفتوحة للأسواق المكتظة،مع الأخذ بالحسبان أن التطبيع التركي-الروسي لايعني بالضرورة حل الملفات السياسية العالقة بينهما بشكل كلي، وخاصة أن تركيا تبقى دولة عضو بحلف الناتو ولاتستطيع أن تغرد كثيراً خارج السرب، ومن المؤكد في ضوء هذه القراءة أنه سيكون هناك فصلاً تركياً للمسار السياسي عن المسار الاقتصادي ومسار الأمن القومي، بحيث يدخل التطبيع تحت نطاق الأمن القومي و المسار الاقتصادي وهذا ما سيعكسه لقاء الرئيسين أردوغان وبوتين على هامش قمة العشرين الاقتصادية إضافة إلى عودة الحديث عن مشروع السيل التركي، فيما تخضع الملفات السياسية للمساومة بين الطرفين، بحيث سيكون غض النظر التركي عن القرم والجسر البري الواصل بها، مقابل موقف روسيا من الملف الكردي في سورية، والتواسط مع دمشق لاستلام زمام المبادرة عوضا عن الأكراد في الشمال في مقابل المحاولة التركية لفصل مايسمى المعارضة المعتدلة عن النصرة في حلب، وإعطاء الولايات المتحدة البديل البري لمحاربة الإرهاب من خلال هؤلاء، وهو مايفسر انسحاب الجيش السوري من منطقتين جبل التركمان وكنسبا شمال اللاذقية -دون معارك تذكر- والتي تمثلان غرفة العمليات التركية السابقة، ومع كل مايمثله هذا التطبيع التركي-الروسي من استفزاز للولايات المتحدة الأمريكية إلا أنه يصب في النهاية في خانة تهدئة الأوضاع الأقليمية والدولية وتبريد الاحتكاك الممكن بين القوى العظمى وخطوة حقيقية في محاربة الإرهاب الفعلية، وإسقاط المشروع التكتلي الإسلاموي بشكل كامل، وتبقى اليوم أنظار النخب الأكاديمية السياسية على سياق تطور مفهوم الأساس التي تقوم عليه الدولة، فمن الأساس الديني في القرون الوسطى (دولة إسلامية-دولة مسيحية)، إلى دولة تقوم على أساس قومي نتيجة الثورة الصناعية والناتج القومي، وصولاً إلى دولة تقوم على أساس عابر للقومية كالاتحاد الأوروبي نتيجة الثورة التكنولوجية، وهل سيشكل خروج بريطانيا رجوعاً نحو الطور الثاني أم أن هناك طور جديد من الممكن أن يتبلور حال توازن القوى، وتبلور شكل النظام الدولي بعيداً عن حالة الهلامية القطبية الحالية.

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.

زر الذهاب إلى الأعلى